العقـيد شعـباني و مذبحة الألف مصالي في مارس 1962

بأوامر وتآمر من العقـيد محمد شعـباني في مارس 1962 :
مذبحة الألف مصالي أو حكاية دم تفرق بين قبائل بـسكرة وبوسـعادة والجلـفة..
اسامة وحيد
العقيد شعباني في الوسط
بداية التحقيق كانت من تلميح مقتـضب وعابر للعقـيد المتقاعد أحمد بن الشريف، في آخر خرجة إعلامية له، حيث ذكر أثناء دفاعه عن تاريخه من تهمة أنه كان المنصة التي تم عبرها تنفيذ حكم الإعدام في حق العقـيد شعباني، بأن شعباني نفسه قد أعدم 750 مصاليـست دون محاكمة. ورغم أن التصريح كان قنبـلة ومفتاح ورقة دموية تم إتلافها من سجلات ما بعد الثـورة، إلا أن الكونـيل المتقاعد بن الشريف اكتفى بالتلميح إليها ودخل في حملة للرد على ما يعنيه وما يعني شخصه بعدما أصبح اسمه مـرادفا للألغام التاريخية التي جعلت منه مشـجبا تعلق عليه زلات وأخطاء الثورة التي لم تستثن في سبيل استقلالها حتى أكل أبنائها إذا ما فرضت عليها ظروف الصراع ذلك..
البلاد.. تحركت في اتجاهات عدة بحـثا عن القصة الكاملة للمجزرة المقبورة وللقبور التي لا تحمل من شواهد ومخانق عد كلمة عابرة تفوه بها العقيد المتقاعد أحمد بن الشريف ليبرئ ذمته من دم شعباني برمي ورقة مبتورة من مجلدات مجزرة تاريخية أراد أن يهش بها على من يجرون اسمه إلى مستنقعات الحساب والعقاب ليبعث لهم إشارة أن العقيد شعباني كان طرفا فاعلا في ملوزة ثانية ومنسية تمت التغطية عليـها في مسرحية تبييض التاريخ،.. ملوزة مغيبة أو مذبحة وخنق لما يفوق الـ750 مصاليا بأمر مباشر من شعـباني، تلكم حكاية دم تفرق بين القبائل والقصة تبدأ من جبال زكار بالجلفة مرورا بمنطقة رأس الضبع ببوسعادة وتنـتهي عند مدفنة عين الدابة ببسكرة.. فإلى فصول ملوزة ثانية أو أغرب مذبحة لم يسمع عنها أحد.. فمن يعرف جيش الرائد عبد الله سلمي ومن لايزال يذكر أو يجرؤ على تذكر كتيبة البشير لاغواطي؟

قبل البـدء.. ذاكرة المطـرّوش المنسي أصعب مهمة يمكن أن يصطدم بها أيا كان هي استنطاق المقابر والمقبورين والسعي وراء الحقيقة الغائبة أو المغيبة من خوف أو عن قصد وربما ندم ومهمة تقصينا لهذه القضية اصطدمت بسياج من الصمت أو اللامبالاة، فبعض من قصدناهم لمعرفة ما جرى بالأمس كحق تاريخي للأجيال اعتبروا أن الثورة جبّت ما قبلها وأن بحثنا في الموضوع مجرد استرزاق صحفي، وآخرون اكتفوا بأن ذاكرتهم خانتهم أو أخافتهم.
وبين هؤلاء وأولئك كانت رحلة بحثنا قد انحرفت عن مسار البحث عن الحكاية الدموية التي قال فيها الكونيل بن الشريف كليمة، إلى البحث عن شخص بعينه يلقب بـالمـطرّوش إبان الثورة دلنا عليه أكثر من واحد واسمه بالكامل بلـخضر اعمارة.. قيل لنا عنه الكثير ومن دلنا عليه زودنا بحكاية أغرب من الخـيال عن كهل يرتدي قشابية أو جلابية رثة ووجهه اعتراه التراب ويداه مدممتان وخشنتان من شدة الحفر والحرث، اخترق ذات زيارة وزارية من سنة 1980 نشاطا رسميا كان مقاما بمناسبة إحياء ذكـرى معركة 48 ساعة بمنطقة تدعى جريبيع تابعة لبلدية عمورة التي تتوسد جبل بوكحيل، ليقاطع ذلك العجوز الرث والحطاب مسؤول المنظمة بولاية الجلفة الذي كان يشرح أحداث معركة 48 ساعة لوفد وزاري يقوده يوسف يعلاوي، الأمين العام لمنظمة المجاهدين الأسبق، متحديا إياه أمام الملأ إن كان المكان الذي أشار إليه المسؤول المعني كازمة ليلجم الكهل إياه الحاضرين بمن فيهم يعلاوي ويخبرهم بأن ما يحويه المكان المشار إليه قبرا للمجاهد الفلاني وبعد التنقيب صدق الرجل ذو الحياة المتجعدة وكذب مسؤول المنظمة، ليركب العجوز حمـاره ويغادر النشاط الرسمي بعدما سلم للمسؤولين رسالة يترجاهم من خلالها أن يكتبوا التاريخ وألا يزوروه .. فقط يكتبونه ولا يهم أن تجاهلوا أو ذكروا بين صحائفه حكاية “المطرّوش” أو المجاهد اعمارة بلخضر الذي يمتلك أكثر من شاهد وشهداء ومواقع تبرهن على أنه كان “مطرّوشا” ويقصد بها “المجنون” والمتهور الذي استشهد بين ذراعيه بدلا من شهيد واحد عشرات الشهداء ليبقى هوحيا ومعه حمار يخلف حمارا ليؤنسه في تنكر جزائر الاستقلال لأكثر من شهيد حي رفض أن يتقاضى أجرة على جهاده لينساه التاريخ وتنساه مديريات المجاهدين، والذنب ذنبه والسلطة لا تعترف بمن تنازل عن جهاده من أجل جـهاده.. عمي اعمارة ذلك الذي كان كهلا في سنة 1980، وكان قبلها في سنوات الثورة مجاهدا مطروشا لا يتوانى عن أن يكون جزءا من النار.
وحكايتـه مع الكفاح المسلح بدأت سنة 1956، ففي البدايات الأولى لوصول الثورة إلى منطقة الجلفة وجد نفسه جنديا في صفوف جيش زيان عاشـور الذي كان من أقرب مقربيه رجل كبير ومجاهد معروف وطنيا يدعى لخضر الساسوي، ولقبه الرسمي الحاج لخضر الرويني وقصته أكبر من أن تروى في سـطور كونه كان مقربا جدا من الشهيد زيان عاشور وكذا من الرائد عمر أدريس، كما أنه كان رفيق هذا الأخير في رحلته إلى المغرب لجلب السلاح، والمهم أنه كما أن جزائر الاستقلال لم تعط المجاهد المرحوم، لخضر الساسوي، حقه كقائد وكمعلم ثوري كان من أوائل الذين التحموا وريح الجبل، كما أنه كان مصدر تجنيد الكثيرين من النوائل الذي ينتمي إليهم نسبا ليتم نسيانه، فإن الجزائر نفسها تناست من جندهم ومنـهم المطرّوش الذي كان مقربا إليه حتى بعد الاستقلال.
وقد سعى المجاهد لخضر الساسوي مع المطروش لكي يستخرج له شهادة اعتراف بمشاركته في الثورة بعدما التقى القائد جنديه الذي انقطع عنه خلال السنوات الأولى للاستقلال، إلا أن الرجلين اصطدما بالإدارة ـ في سنوات السبعينيات ـ تطلب من القائد لخضر الساسوي أن يقنع مجنـده المطرّوش بشهادة الاعتراف بالجهاد مقابل أن يقر ويقبل بأنه التحق بالثورة سنة 1961 بدلا من سنة 1956، وهو ما اعتبره المجند تزييفا وتزويرا لتاريخه وحقه بأنه كان موجودا وسباقا لحمل السلاح ليختفي مرة أخرى ويختار مصاحبة حماره الملازم له حتى الحين، والواقعة حسب ما ذكرها عمي اعمارة للبلاد حدثت سنة 1978.
عمي عمارة بلخضر لايزال حتى اللحظة يقول:.. قال الزعيم حينما يتكلم عن مصالي الحاج وهو من المحسوبين على مصاليي المنطقة الأوفياء للأب الروحي مصالي الحاج. وهي الجناية التي فر بها بروحه بعد الثورة ليختفي في تفرت مباشرة بعد الاستقلال ويحفر له ولعائلته مطمورة خوفا من التصفية، وخاصة بعد ما شاع وذاع خبر أن الآمان الذي أعطاه العقيد شعباني للمصاليين قد تم نقضه ليلقى أكثر من 750 مشـبوها بالمصالية حتفهم في ملوزة منسية وممنوع تداولها بدأت من جبال زكار بالجلفة ومرت برأس الضـبع ببوسعادة وانتهت بعين الدابة ببسكرة حيث تم دفن بـقايا المذبحة أو المجزرة..

شعباني يضع السم في العسل بالشارف
اليوم الرابع من جوان، السنة 1962، المكان منطقة الشارف والمناسبة احتفال جماهيري وشعبي كبير بالاستقلال كرمت به منطقة الشارف بالجلفة لتحتضن فعالياته بحضور قائد الولاية السادسة العقيـد شعباني التي تضم كلا من ولايات بسكرة، اد سوف، المسيلة، الجلفة والأغواط، وبحضور كل من الرواد عمر صخري وسليمان لكحل وشريف خير الدين، بالإضافة إلى الضابط بركات الذي شاركهم منصة الاحتفال، وقد كان مسؤول منطقة الجلفة حينها ضابط يدعى أحمد بن براهيم. الاحتفال كان كبيرا ومتفردا وتاريخيا والعروض العسكرية ضمت جنود جيش جبهة التحرير، اتحدت في لباس واحتفال واحد مع كتائب متفرقة كان يشار إليها بالبنان على أنها مصالية الفكر والمعتقد، ليعلن العقيد شعباني في احتفال الشارف انضمامها إلى جيش التحرير ويشكر وينوه بقائدها الرائد المدعو عبدالله السلمي، كما أعطاه الكلمة في المنصة في توثيق للعهود والمواثيق التي قطعها العقيد شعباني كمسؤول على المنطقة مع السلمي وجيشه الذي قدرته أوساط شعبية بأكثر من 700 جندي من مختلف الأعمار، التحقت بركب الاحتفال والعرس لتقدم عروضها العسكرية جنبا لجنب مع جنـود جيش التحرير وحكاية الأمان ومنديل الأمان قصة لذاتها وبذاتها والحكاية المخزونة في ذاكرة المنطقة تحكي أن العقيد شعباني بصفته قائدا للناحية العسكرية السادسة قد باشر مفاوضات عسيرة وجادة وحقيقية مع فـصائل المصاليين عشية الاستقلال ليضمهم إلى مشهد التآلف والتحالف، وقد كان المعنيان جيشين أحدهما مرابط بمنطقة زكار بولاية الجلفة ويرأسه المدعو البشير الأغواطي بمعية كل من على بن بن علية العيفاوي ومحاد بن الطاوس ومحمد الباق وأحمد بن سلامي والبار عمر، ويضم ما يقارب 350 جنديا حسب شهادات عدة. أما الفصيل الثاني، وهو الأكبر، فيرأسه عبدالله السلمي ويرابط بمنطقة راس الضبع التابعة لمنطقة احجيلة ببوسعادة، ويصل عدد جنوده إلى 700 جندي.
هذا العدد الكبير من الجنود اختار العقيد شعباني طريق الحوار معهم وعن طريق علماء ومشائخ المنطقة كان من ضمنهم عالم الجلفة الجليل الشيخ العلامة مسعودي عطية المعروف بتقاه وتقواه، بالإضافة إلى تلامذته منهم مفتي الولاية الحالي عامر محفوظي والمرحوم الإمام الكبير الشطي عبدالقادر، تم الوصول إلى اتفاق آمان يصبح بموجبه المرابطون في منطقة زكار ورأس الضبع جزءا من الجيش يأتمرون بأمره مقابل أن يحفظ لهم العقيد شعباني دماءهم. ولأن في الآمان كلمة علماء ومشائخ أجلاء ومجاهدين معروفين من أمثال الحاج لخضر الساسوي الذي كان حاضرا حسب شهادات البعض للعهد المقطوع، فإن الآمان صدق وجيش زكار وراس الضبع دخلا بعدتهما وعتادهما ليشاركا في احتفالات النصر ومعهم مواثيق الأمان.. لكن المشكلة أو الكارثة أنه بالموازة مع التنويه وإعلان الفرحة التي أطلقها العقيد شعباني بانظمام كتيبة البشير الأغواطي وفيلق عبدالله السلمي، وحينما تلاعب العقيد شعباني بضحاياه كما تلاعب بعهد علماء كبار من أمثال الشيخ سي عطية بعدما تم خداعه على طريقة أبي موسى الأشعري وعمر بن العاص في واقعة صفـين..
فكيف انقلب شعباني على من أعطاهم الأمان ليتم خنقهم أو ذبحهم بعد تفريقهم بين الولايات، وما الذي جرى حتى يباد ما يقارب الألف جزائري دون محاكمة ولا تهمة ثابته عدا المصالية؟ المطـرّوش.. مرة أخرى عمي اعمارة، كما ينادونه، التقيناه فوق حماره في دار مهترئة بحي فقير بمسعد، ولأنه واحد من الذين فروا بحياتهم وجلدهم من الطعنات والتصفية وخاصة أنه مصاليست ولا يزال، سألناه عن الحـكاية وعن ذكرياته فكانت حكايته عبارة عن سلسلة من الوقائع التي لا يمكن لأي كان أن يشكك في صحتها أو يطعن فيها. فرغم أنالمطروش أو عمي اعمارة قد بلغ من الكبر عتيا ويشارف على الثمانين حولا، إلا أن ذاكرته ودموعه وهو يروي لك سقوط رفاقه بين يديه إبان الثورة يكشف أن العجوز لايزال يعيش المشاهد مشهدا مشهدا وواقعة واقعة ومأساة مأساة. هو من مواليد 1934حمل السلاح سنة 1956 وحكم عليه الجنرال بلونيس بالإعدام رفقة اثنين من رفاقه، وذلك على خلفية أسره محافظ بلونيس السياسي المدعو نواري بلبوال رفقة كاتبه بختي وحارسهما الشخصيين، محمد الفرجاوي وبعلام الدزيري، وذلك بناء على أوامر من الضابط مفتاح الذي قاد انقلابا ضد بلونيس سنة 1958.
عمي اعمارة يعرف مناطق بوكحيل حجرا حجرا ومعركة معركة، كما يعرف جبل التامسة ويحكي لك وهو دامع وباكٍ عن دفنه بيديه 136 جثة لمجاهدين سقطوا في معركة زمرة بمنطقة أمجدل ببوسعادة حيث حاصرت فرنسا 200 مجاهد بناء على وشاية، وكان ذلك سنة 1959، ليدخل المجاهدون في معركة كبيرة سقط على إثرها 136 شهيدا فيما تكبدت فرنسا خسائر في الأرواح قدرت بـ900 جندي ليخترق الأحياء من المجاهدين الحصار وقد خلفوا وراءهم شهداء منهم أربعة قادة هم عبد القادر بن دحمان، محمد لبيض البسكري، رابح الدولة، بن جدو الفرجاوي. البقية عادوا بعد ليلتين من معركة زمرة ليدفنوا الشهداء الـ136 في جبل التامسة ببوسعادة، وعمي اعمارة قال إنه كان يدفن أصحابه ومع كل واحد منهم دموعه تغسل رفاق الأمس، المعارك التي شارك فيها صاحب الحمار الذي يحمل اعترافات لا تحصى ولا تعد، ومن الجلفة إلى بوسعادة إلى بودنزير والديرة بسور الغزلان حيث كان المسؤول عبدالقادر القبايلي، يحكي المدعو المطروش عن تاريخ طويل من كفاح ومعاناة أمة قدمت الغالي والنفيس في سبيل استقلالها، لكن بين كلام ذلك المجاهد المنسي عن معارك أصحابه وشهادتهم في ساحة الوغى ضد فرنسا وبكائه على ما يسميها معركة قذرة مات فيها أصحابه من طرف إخوانهم عشية الإستقلال تجد نفسك مرغما على احترام دموع العجوز كونها لم تبك الشهداء كما بكت دموع المغدورين بفعل حسابات السياسة أو الزعامة.. يذكر العجوز عمارة أنه كان جنديا في استعراض الشارف وأنه كان شاهدا يوم رحب ونوه العقيد شعباني بالبشير الأغواطي والرائد عبدالله سلمي، وكيف أن السلمي ورفاقه كانوا فرحين بالاستقلال والأمان كما الأطفال الصغار. كما يذكر أن ما نجاه من الخنق أو الذبح هو أنه أصيب بوعكة صحية ألزمته الفراش فكانت نجاته في مرضه ليكتشف بعدها أن المصاليين تم تفريقهم على عدة مدن في خطة إبادة، فبعضهم تم أخذهم إلى منطقة القاهرة بمسعد وآخرون تم أخدهم إلى بوسعادة، وآخرون إلى الشلالة بتيارت. أما البقية فتفرقت بين الأغواط وبسكرة لتكون المذبحة، فكيف تمت؟

الحلقة الثانية
وصف ضحاياه بالمجاهدين والوطنيين ثم أمـر بتصفيتهم ، شعـباني.. وخطة حـط أسلاحك وادخل أدوش

البداية من فيلا “بيكو” التي كانت متواجدة بدشرة الخونية بالجلفة ومنها أدار الضابط بركات وبلقاسم الفرجاوي وكذا مسؤول منطقة الجلفة أحمد بن براهيم، في ماي من سنة 1962، مفاوضات شاقة مع المرابطين بمنطقة زكار وهي منطقة تابعة لبلدية عين الإبل بالجلفة، حيث كان يرابط هناك ما يـناهز 350 جنديا تحت إمرة المدعو البشير الأغواطي.
وحسب الشهادة المقتضبة والحريصة جدا لجريدة “البـلاد” من طرف المجاهد المعروف صيلع مبروك، فإن المفاوضات كانت عسيرة وقد توجت بانتقال علماء المنطقة على رأسهم العلامة الشيخ سي عطية مسعودي الذي انتقل إلى معسكر “البشير الأغواطي” حاملا لهم أمانا من المسؤولين على رأسهم العقيد شعباني الذي كان على اطلاع تام بتفاصيل المفاوضات وكان مباركا وداعيا لها، وكما حدث مع جماعة “زكار” حدث مع فيلق الرائد عبد الله السلمي بمنطقة رأس الضبع، ليتم الوصول إلى اتفاق يتم بموجبه انضمام جماعة البشير الأغواطي وعبد الله سلمي إلى جيش التحرير مع إعطاء الأمان لكل الجنود.
وهو ما تم فعلا بعدما شارك بعد شهر من الاتفاق كل من قائد كتيبة زكار وقائد كتيبة “رأس الضبع” في احتفال الشارف المقام بمناسبة الاستقلال بتاريخ 4 جوان 1962، وتم خلال الاحتفال اعتراف العقيد شعباني على المباشر بوطنية وجهاد وشجاعة عبد الله سلمي ليعطيه الكلمة في تقدير منه لعطائه.
إلى هنا كانت الأمور عادية، لكن بعد احتفال الشارف مباشرة جاءت الأوامر بإحـصاء عدد المصاليين ووضعهم في قوائم تسلم لقيادة شعباني حتى يتم تسجيلهم وتسوية وضعياتهم، وهي الخطة التي مكّنت من معرفة كل أسماء الجنود وهويتهم، لتأتي الخطوة الثانية والتي تمثلت في تفريق جيشي عبد الله السلمي والبشير لغواطي على الولايات والمراكز المشكلة للولاية السادسة، ومن بقاء مجموعات صغيرة بالجلفة إلى نقل البعض إلى الأغواط والشلالة، إلى انتقال عبد الله السلمي رفقة كتيبة صغيرة إلى بسكرة، إلى آخرين تم استبعادهم باتجاه بوسعادة، تفرق جنود الأغواطي والسلمي وكانت أوامر التصفية جاهزة. ويقول بعض الشيوخ ممن رفضوا الكشف عن هويتهم أن جماعة مجندي “مارس” هم من نفذوا المذبحة على أساس أن المعنيين خونة و”ونيسات” أي جماعة “بن لونيس”، لتكون المجزرة كبيرة، وتحفظ الذاكرة أن الضحايا كانت تترواح أعمارهم بين 18 و30 سنة وأغلبيتهم جنود ومسبلون لم يفقهوا شيئا، غير أن واجب الثورة ناداهم• كما يردد الكبار أن طريقة التصفية كانت بشعة جدا.
فبالإضافة لغياب أي محاكمة أو حتى اتهام، فإن الذين تمت تصفيتهم تعرضوا للخديعة حيث يؤمر الجندي بالدخول إلى دار بعينها للاستحمام وتغيير لباسه بلباس جديد، وحينما تترك الضحية سلاحها وتدخل للاغتسال وتغيير الملابس تصطدم بحبل يلف حول عنقها و”البقاء لله”.. وبين الذبح والخنق تمت تصفية المئات. أما عن مصير عبد الله سلمي والبشير الأغواطي فإنهما ـ رفقة آخرين ـ تمت تصفيتهما ببسكرة، فالأول تم ذبحه في الصحراء والآخر دخل “حمام الصالحين” ولم يخرج منه، ليتم دفنهما رفقة العشرات في منطقة تسمى عين الدابة ببسكرة حسب شهادات الكثيرين.

صحفي تحت برنوس المجاهد الصـيلع..
المذبحة لم تكن مبنية على الصدفة، وزيارتنا للمجاهد والمقاوم المعروف وطنيا “الصيلع المبروك” القاطن بعرينة بعين الإبل غير بعيد عن منطقة زكار، حيث كان يرابط جيش البشير الأغواطي والذي رفض أن يتذكر الحادثة معتبرا أن زمنها لم يحن بعد، كون عدد غير محدود من أبطالها لا يزالون على قيد الحياة.
وقد لاحظنا تأثر الرجل حينما ذكّرناه بها وكل ما استطعنا أن نعتصره منه صفة، لقد كانت أياما مرعبة وخطأ ثوريا فادحا، ليؤكد لنا حكاية علماء المنطقة الذين ورّطهم القادة حينها لكي يقدموا الأمان لمن كانوا مشروع خنق وتصفية وقتل، بعدما استفتى فيهم شعباني خطته الحربية غير مبال بوقع المجزرة على العلماء وعلى الثوار أنفسهم ممن شهدوا كيف استأمن شعباني غريمه عبد الله السلمي في منصة علنية حينما أعطاه بيمناه الميكروفون واصفا إياه بالمجاهد والوطني، في الحين الذي كانت فيه يسراه تخفي “حبالا” و”خناجر” مطلوبا منها اجتثاث كل ما يشتبه فيه أنه “مصاليست”.. المجاهد “صيلع لمبروك” ذكر لنا كيف أنه أنقذ صحفيا تابعا لحزب الشعب من الذبح بعدما وضع على رأس القائمة، والصحفي يدعى “شخمة” من مواليد الهامل وهو لايزال حتى الآن حيا يرزق بعدما خبأه الصيلع لمبروك في بيته ببوسعادة حيث كان يقطن.
ورغم أن جنود شعباني وصلهم خبر اختباء الصحفي لدى “الصيلع” إلا أن مكانة الرجل منعتهم من الاقتراب إلى بيته. المجاهد الصيلع يعرف الكثير والكثير جدا عن الحادثة، لكنه التزم الصمت واستنصر به من أسئلتنا بحجة أن الوقت لم يحن بعد، كما أن الملف خطير وخطير جدا ليوجهنا إلى طريق آخر ويسألنا لماذا لم نقصد الكبار لنسألهم وقد كانوا شهودا وأطرافا فاعلة في القصة؟. ورغم أنه لم يحدد لنا من هم الكبار إلا أن الغبي يفهم أن الأمر يتعلق بالرائد عمر صخري الذي كان حاضرا في احتفال الشارف وكان قريبا جدا من شعباني، بالإضافة إلى بقية الرواد والمشائخ ومنهم سي عامر محفوظي مفتى ولاية الجلفة الحالي وتلميذ العلامة الشيخ سي عطية مسعودي، الذي ظلت هذه الحادثة تنغص عليه حياته كونهم خدعوه وتلاعبوا بأمان كان الشيخ العلامة قد أعطاه عن حسن نية وتقوى.

تعقيب الجريدة بعد ردود الفعل التي جاءت بعد نشر التحقيق
اسامة وحيد

لم أكن أدري أن التحقيق الذي نشرته بداية الأسبوع حول واقعة العقيد شعباني مع المصاليين، سيثير ضجة تعدت توقعات سرد حادثة تاريخية مخزنة في ذاكرة أكثر من شخص وأكثر من ألف، تم ردم صورهم وأسمائهم بحجة الظرف التاريخي الذي لا يسمح، ولم أظن ونحن نخطو خطواتنا الأولى باتجاه القرن الواحد والعشرين، أن فتح ملف تاريخي معين يحتاج إلى إذن من الأموات قبل الأحياء، لكن ولأن اتصالات عدة اتهمتني بأنني تعمدت الإساءة إلى تاريخ العقيد شعباني بتحقيقي الصحفي، فإنني أوضح بأنه لا نبي بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلام ولا بشر منزه عداه..
هواري بومدين صدح بها ذات ثورة وسأل عن الطاهر بن الطاهر الذي يزايد على الآخرين بكونه ملك منزلا، ورغم أن شعباني نفسه كان حاضرا، إلا أن التاريخ لم يسجل بأن العقيد الشاب ثار في وجه من يماثله رتبة ومكانة ليصفعه بكونه الطاهر بن الطاهر المنزه من خطايا وزلات البشر، شعباني فهم أنه المقصود وبومدين اكتفى بموقف من بلغ رسالة أن الإنسان إنسان وأنه لا منزه إلا أنبياء تجاوز الله عنهم برحمته أخطاءهم فمنهم سيدنا موسى الذي قتل خطأ، ومنهم سيدنا إبراهيم الخليل الذي أراد وهو المؤمن والموحى إليه أن يريه الله كيف يحي الموتى.. التحقيق لم يكن طعنا ولا انتقاصا من شأن العقيد شعباني ولكنه كان شهادات حية على أن شعباني بشرا كبقية الإنس له صدقه وعهوده وجهاده لكن في الكفة الآخرى كانت له زلات بـشر ومن يورط علامة مثل المرحوم الشيخ سي عطية ومعه أعيان وأئمة منطقة لقطع عهودا ولو كانت مع “النمل” ليتم نقضها، فإننا نقول عنه بشر لم يكن يوما نبيا ولا منزها والدليل ليس في عدد ضحايا المذبحة المطعون فيه هنا وهناك، ولكن في أن العقيد الشاب والمعرب والوطني أخل بآمان كلف به علماء ومشائخ بعدما حوله إلى خنجر لا يبرره أنه فتك بخونة مادام في الميزان ميثاق وآمان وكلمة علماء ومشائخ، فمن الطاهر بن الطاهر؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.