حقيقة سانت إيجيديو أو قصة المصالحة التي أجهضها النظام ـ جزء مكمل ـ

قاصدي مرباح سافر إلى ألمانيا لإجراء اتّصالات مع قيادات في الفيس / الجزء الخامس

السلطات صادرت تسجيلات "سانت ايجيديو" من الشيخ الحسين سليماني لتمنع عبّاسي وبلحاج من الإطلاع عليهما

                                               بقلم : د. أحمد السليماني
                                           الشيخ السليماني

 أرملة قاصدي مرباح "المعادون للحوار مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ هم من قتلوا زوجي"

ومازلت أذكر أن والدي الشيخ الحسين السليماني حدثني عن لقاءات عديدة مع المرحوم الحاج إسماعيل العماري من أجل دفع الحوار إلى الأمام بين جبهة الإنقاذ والسلطة، وكانت لوالدي لقاءات مع مستشار الرئيس محمد بتشين وكلاهما من قادة المخابرات في الجزائر علاوة على لقاءات والدي مع قاصدي مرباح والذي كان يسعى في أواخر حياته من أجل إصلاح ذات البين مع الفرقاء السياسيين جبهة الإنقاذ والسلطة. 
وعلاوة على ذلك، لا أعتقد أن الجيش الجزائري كان خارج اللعبة السياسية ولاسيما في عهد وزير الدفاع ثم رئيس الجمهورية فيما بعد، وهو السيد اليمين زروال فقد كان لهذا الرئيس سلطة فعلية في تسيير الدولة رغم بعض النقائص، وشارك في الحوار بين الإنقاذ والسلطة بشكل فعال، وكاد أن ينتج عن هذا الحوار انفراج سياسي مثالي لولا المعارضين لهذا الحوار، الذين وقفوا حجر عثرة أمام كل تسوية مع جبهة الإنقاذ مع الأسف وإن والدي الشيخ الحسين عاش هذه الفترة ومارس الوساطة بحسن نية ولكن في الأخير لاحظ أن مساعيه أجهضت لأن المناوئين كانوا يتربصون بالدوائر، وهي المعارضة الموجودة داخل النظام التي كانت ترفض انفراج الأزمة السياسية بحلول عملية بعد أخذ ورد وافق السيد اليمين على تحويل شيوخ الإنقاذ إلى إقامة محروسة في أعالي مدينة الجزائر ليس بعيدا عن قصر الشعب، ألا وهي إقامة جنان المفتي لمواصلة الحوار الذي سعى إليه والدي من أجل إطلاق سراح الشيوخ وعودة جبهة الإنقاذ إلى العمل السياسي وإطلاق سراح المساجين والمنفيين في الصحراء، وأكبر غلطة ارتكبها الرئيس السابق محمد بوضياف عندما أصبح رئيسا للجزائر هو نفيه للجزائريين إلى الصحراء برڤان، مع العلم أن هذه المنطقة توجد فيها إشعاعات نووية بسبب التجارب النووية الفرنسية في الستينيات من القرن العشرين ومازالت الإشعاعات قائمة إلى يومنا هذا في منطقة رڤان وعين أنكر بالقرب من تامنغست. 
إن السيد اليمين زروال سعى وهذا بفضل البديل السياسي الذي أظهره من نوايا حسنة في الحوار السياسي مع المعارضة، ولكن وقع سوء تفاهم مع الشيوخ ويتعلق بمسألة أساسية لوقف العنف، حيث طلب السيد زروال من محاورية أعضاء جبهة الإنقاذ وهم الشيوخ طلب نبذ العنف وإصدار بيان لوقف العنف، فكان لهم تحفظ في ذلك لأنهم اشترطوا لإصدار بيان وقف العنف أن يطلق سراحهم وألا يبقوا في إقامة إجبارية خارج السجن، بمن في ذلك المسجونون السياسيون كشرط أساسي لإعلان الشيوخ وقف العنف الكلي، فوقع بعد ذلك سوء تفاهم، بعد انعقاد مؤتمر سانت إيجيديو تدهورت العلاقات كلية بين شيوخ جبهة الإنقاذ والسلطة الحاكمة في عام 1995. 
وبعد مجريات عقد روما عرفت بل دخلت وتيرة الحوار بين الإنقاذ والسلطة بأزمة عاصمة، فكان رد فعل النظام السياسي عنيفا في التعامل مع عودة السلم المرتقب إلى ربوع الجزائر، وبعد عودة والدي من اجتماع روما في منتصف جانفي 1995 رافقته بسيارتنا الجديدة إلى جنان المفتي في مرتفعات طريق الأبيار وهي إقامة تابعة لرئاسة الجمهورية وهي عبارة عن منزل في وسط حديقة جميلة.
ووجدنا في دخولنا إلى إقامة جنان المفتي حرسا جمهوريا طلبوا مني أنا ووالدي بطاقة التعريف الوطنية فسلمناهم البطاقتين واتصلوا بالشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج فرفضا أن يستقبلا إلا الشيخ والدي وأنا، أما صديق والدي الآخر فرفضا دخوله عليهما، وهذا ما أخبرنا به المكلفون بالرقابة في مدخل قصر جنان المفتي وقبل صعودنا إلى الطابق الأول من إقامة الشيخين في جنان المفتي رأيت في الحديقة عناصر من الحرس على وجوههم أقنعة لا نرى سوى العيون والأفواه وقد أدخل هذا المنظر نوعا من الاستياء عندي.
وعندما دخلنا على الشيخين في الطابق الأول من قصر جنان المفتي وقف الشيخان واستقبلانا بحرارة كبيرة وسلمنا عليهما في الوجه والمصافحة، ومدح والدي جمعية سانت إيجيديو، واعتبر أن اللقاء المنعقد في روما كان ناجحا جدا لأنه عرّف بالقضية الجزائرية على المستوى الدولي، وشرح للشيخين بحماس شديد الأهداف التي من أجلها وقع اللقاء في روما وتحدث عن النحناح ولويزة حنون وبن بلة ومهري وعلي يحيى عبد النور وجاب الله.
وقد سبق لوالدي أن زار الشيخين مرات عديدة في إطار مسعى الحوار الذي فوضه وبتزكية الرئيس اليمين زروال لإصلاح ذات البين مع جبهة الإنقاذ والسلطة الحاكمة تحت قيادة اليمين زروال، أما أنا فلأول مرة اتصل بالشيخين في الإقامة الفاخرة المحروسة بقوة من الحرس الجمهوري داخل مربع القصر.
وأثناء الحوار الهادئ مع الشيخين شعرت خلال اللقاء الودّي أن الشيخ عباسي مدني كانت تبدو معنوياته مرتفعة بالنسبة لقضية جبهة الإنقاذ وقضية الإسلام في الجزائر بصفة عامة، وطلب الشيخ عباسي من والدي أن يطلعه بالبيان الختامي للقاء عقد روما، وخطاب أنور هدام في الندوة هذه فأجابه والدي الشيخ الحسين أن وثائق في هذا المضمار جلبها معه من روما وهي موجودة في المنزل بمدينة المدية، وقال والدي للشيخ عباسي أنه سيأتي بهذه الوثائق في زيارة قادمة، وسألني الشيخ عباسي عن أحوال جامعة الجزائر فقلت له أنها على أحسن ما يرام، وسألني عن أساتذة يعملون معي في قسم التاريخ بالجامعة، ومن هؤلاء أساتذة مؤرخون يعملون معي، منهم د. بن عميرة ود. الشنيتسي. ود. أبو القاسم سعد الله، فقد قلت له أن هذا الأخير في أمريكا لأنه حصل على منحة "تفرّغ بالولايات المتحدة، وسألني عن د. سعيدوني، فقلت أنه بخير فطلب مني تبليغ سلامه إليه.
وسألني عن أساتذة آخرين في معهد التاريخ وتحدثنا بعض الوقت عن اليسار واليساريين الجزائريين في جامعة الجزائر خصوصا وهم أساتذة مرموقون وذكرت مناقب بعضا منهم مثل د. جربال الذي ساهم بشكل فعال في إطلاق سراح السيد معريش رئيس تحرير جريدة المنقذ، وهو أستاذ جامعي ومؤرخ، وكنت قد احتججت في اجتماع بالجامعة على اعتقاله، ولكن الشيخ عباسي أثناء الحوار المثمر في جنان المفتي معه أبدى نوعا من الامتعاض من هؤلاء اليساريين واستغرب ذلك وضرب لي مثلا بالصديق الذي أعرفه وهو الأستاذ الكنز وهو أستاذ جامعي في جامعة الجزائر في قسم علم الاجتماع.
وقال لنا عباسي خلال لقاء قصر جنان المفتي الفاخر، إن الإسلام في العالم يعاني من التحدي المعادي للإسلام، ولاسيما أن الجزائر لها مكانتها في حوض المتوسط كبلد فيه حركة إسلامية قوية، وبعد ذلك حدثنا الشيخ علي بلحاج في هذه الجلسة الحميمية بجنان المفتي فقال: إن الإعلام في الجزائر يجب أن يكون ديمقراطيا أي يجب أن تفتح جميع القنوات أمام ممثلي الحكومة وممثلي المعارضة بشكل متساوي، ويعني الشيخ بلحاج حق الرد، ثم حدثنا عن الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي منهم جمال عبد الناصر الذي حارب الإخوان المسلمين، ونفس النظام موجود في الجزائر، تلك الأنظمة المتسلطة المستبدة، لأننا نحن على حق كما قال الشيخ علي بلحاج - وكان والدي الشيخ الحسين والشيخ عباسي يستمعان باهتمام كبير إليه. وكانت لهجة الشيخ بلحاج تتسم بالحماس الشديد -.
وأثناء الحديث مع الشيخين الوقورين، ذكر لنا الشيخ عباسي حادثة وقعت أثرت في نفسه كثيرا، قال عباسي: كيف يتم نشر رسالة للشيخ أبي بكر الجزائري كانت موجّهة إليهما من مكة المكرمة التي يقيم فيها أبو بكر الجزائري، ونشرت في القنوات السمعية البصرية وفي الجرائد، بحيث نشرت قبل أن تصل إلى الشخصين، ومعنى هذا أنها فتحت وقرأت.. أي تليت في التلفزيون الجزائري. وأظهر الشيخ عباسي أمامنا أنا ووالدي، نوعا من الأسف من هذا التصرّف غير اللائق من طرف بعض المصالح المعنية على مستوى السلطة السياسية.
وقبل نهاية اللقاء مع الشيخين الذي دام أكثر من ساعة ونصف، طلب مني الشيخ علي بلحاج كتاب مذكرات الفضيل الورتلاني، فقلت له أنها موجودة في أسواق الكتب وسأبعثها له مع كتبي الذي طبعتها أخيرا، وأعني بذلك كتاب تاريخ مدينة الجزائر، وكتاب النظام السياسي الجزائري في العهد العثماني وكتاب ماسينيسا ويوغرطة، وأعداد من مجلة دراسات تاريخية الصادرة عن معهد التاريخ.
ولاحظت في نهاية مطاف الزيارة الميمونة للشيخين أنه من باب الاحترام وصل الشيخ عباسي مع والدي حتى حديقة قصر جنان المفتي، حيث كانت سيارتي رابضة هناك فودّعنا وطلب مني إبلاغ أساتذة التاريخ سلامه الحار.
لاحظت أن الشيخ علي بلحاج ودعنا وبقي داخل بيت الطابق الأول من قصر جنان المفتي لدواع خاصة، ولكن وداعه لنا اتسم بحرارة كبيرة ورفع يديه للتوديع ونحن نفارقه.
وحدثني والدي عن السيد منصف فقال لي أنه كانت له مجهودات معتبرة في الحوار الذي أجراه والدي في السنة المنصرمة أو في بحر هذه السنة مع السيد قاصدي مرباح رحمه الله، وكذلك السي اليمين زروال عندما كان وزيرا للدفاع في حكومة السيد عبد السلام بلعيد ورضا مالك.
الشيخ الحسين الذي التقى في أول وهلة بالسيد قاصدي مرباح الذي طلب منه والدي أن يسعى إلى التصالح وإصلاح ذات البين ما بين الحكومة الجزائرية والجيش وجبهة الإنقاذ، وبدأ السيد قاصدي مرباح مساعيه، حيث سافر إلى ألمانيا للقيام باتصالات مع أعضاء في جبهة الإنقاذ مقمين في ألمانيا، وبينما هو على أهبة الاستعداد للسفر لتحقيق مسعى الصلح حتى تم قتله من طرف مجهولين في طريق البرج البحري، وكان والدي قد التقى بالسيد قاصدي مرباح قبل يومين من مقتله، فكان مندهشا جدا عندما سمع بنبأ اغتياله، فقد أصيب بإحباط كبير، ووضعت أصابع الاتهام يومئذ تجاه أياد محددة أي إلى المعارضين للحوار مع جبهة الإنقاذ داخل مراكز السلطة، وصرحت زوجة الفقيد قاصدي مرباح أن المعادين للحوار هم الذين قتلوا زوجها.
فيما يتعلق بشيوخ الإنقاذ الذين قمنا بزيارتهم في قصر جنان المفتي كان آخر لقاء لي معهم في هذا القصر الجميل، وقبل أن يتم ترحيلهما إلى السجن العسكري في البليدة بعد فشل الحوار، وعاد الوالد في فرصة أخرى إليهما في جنان المفتي ولكن لم أصحبه في هذه الزيارة الأخيرة للشيخين وكان والدي يقوم بالوساطة بين الشيوخ والسلطة السياسية بتفويض من رئيس الجمهورية اليمين زروال رغم أن الحوار عرف مفاجآت ومستجدات غير سارة إطلاقا اتسمت باغتيال شخصيات سياسية مرموقة.
وحسبما علمت فيما بعد أن الشيخ الحسين حمل معه في آخر زيارة للشيوخ كما أعتقد قرصا بل قل "كاسيت" يحمل مناقشات وخطاب أنور هدام في ندوة جمعية سانت إيجيديو في روما، ولكن وقع مالم يكن في الحسبان، حيث جرت مصادرة التسجيلات في مدخل قصر جنان المفتي فحرم الشيوخ من الاطلاع على مجريات نقاش عقد روما يومئذ ولقد علمت بذلك فيما بعد.
وقد أثر هذا العمل غير المنتظر في والدي كثيرا، ولكن تسير الرياح بما لا تشتهيه السفن، في مساعي والدي من أجل الحوار، توجهت معه إلى السيد أحمد بن بلة في إقامته بحيدرة، وجرى ذلك بمدة تجاوزت خمسة أشهر من سانت إيجيديو، وكان والدي قد طلب موعدا مسبقا مع الرئيس الأسبق أحمد بن بلة الذي وافق وضبط الموعد، وبمجرد وصولنا طلبنا مقابلته، ففتح الباب حارس  قبائلي عجوز، ووجدنا في استقبالنا على مدخل الڤيلا الجميلة الرئيس أحمد بن بلة، فحيانا بحرارة وسلم على والدي أولا، ثم سلم علي ودخلنا إلى المنزل.



بلوصيف رفض منح فرنسا "صفقة تغطية الجزائر جوّيا" فزجّ به في السجون وعذّب / الجزء السادس و الأخير

تأييد بوتفليقة العلني لـ"سانت ايجيديو" زرع أملا في "عودة الفيس" إلى الساحة السياسية

                                بقلم : د. أحمد السليماني
الشيخ السليماني
الشيخ السليماني


أثناء الحديث الذي جرى بين السيد أحمد بن بلة ووالدي الشيخ الحسين تعرضا إلى مسألة الحوار المرتقب بعد مؤتمر سانت إيجيديو وتمّ الحديث حول صناع القرار في الجزائر إبان حكم الرئيس زروال. ووعده بن بلة بأن يسعى لتنشيط الحوار للخروج من الأزمة السياسية ونهاية المأساة الوطنية في الجزائر.
وفي نهاية مطاف حول شهادتي للقاءات الشيخ الحسين السليماني، أود أن أذكر أن والدي التقى بالشيخ حشاني في منزلنا بمدينة المدية، وكان هذا اللقاء مثمرا، حيث تحدث بهدوء ورزانة حول أزمة جبهة الإنقاذ، وانتقد السلطة القائمة في تماطلها وتسويفها لإعادة الاعتبار وعودة النشاط السياسي لجبهة الإنقاذ المحظورة، واعتبر ذلك ظلما وعدوانا من الناحية السياسية، ولاسيما أنه -أي الشيخ حشاني- دافع كما قال عن الطابع السلمي الحالي لجبهة الإنقاذ، وتساءل لماذا لا يرفع الحظ على الجبهة يا ترى  !

وكان والدي يستمع إليه بإمعان شديد، وكان برفقة السيد حشاني في زيارته لوالدي أحد أنصار جبهة الإنقاذ من المدية، وقال كيف أنه عانى من السجن والعزلة في السجن العسكري بالبليدة، وبعد محاكمته حكم عليه بالبراءة، وذنبه الوحيد كما قال هو أنه كان مناضلا في جبهة الإنقاذ. 
وقال والدي للشيخ حشاني في هذا اللقاء الأخير أنه يؤيد عودة الفيس إلى المعترك السياسي، ولاسيما أن الرئيس الجديد السيد عبد العزيز بوتفليقة أظهر تأييده العلني لعقد روما، وندوة سانت إيجيديو في خطاب جماهيري بمدينة وهران، وأبدى الشيخ تعاطفه مع ما صرح به السيد الرئيس.
واستمر الحوار بين والدي والشيخ حشاني أكثر من ساعتين، ولم يقتصر الحديث عن أزمة، بل تعداه إلى مواضيع أخرى تخص الحياة اليومية للمواطنين، وأزمة الديموقراطية في الجزائر، وتدخلت أنا فقلت أنه لابد من عدم فقدان الأمل في مستقبل مشرق في الجزائر إذا كانت النية حسنة والله معين، فوافقني حشاني فيما قلت، وكان هذا أول لقاء لي مع الشيخ حشاني، وكانت الصدمة الكبيرة التي فاجأتني هو اغتيال هذا الزعيم الإسلامي المسالم بعد لقاء المدية بين حشاني ووالدي في حي باب الوادي.. رحمه الله وأدخله فسيح جنانه.
ومن اللقاءات التي أجراها والدي في تلك الفترة العصيبة ولا أنسى ذكرها هو لقاءه من قبل مع اللواء بلوصيف الذي كان الأمين العام لوزارة الدفاع في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد الذي وضعه في السجن، وعندما طلب مني والدي أن نزور اللواء بلوصيف في منزله، وافقت على العرض، وكان برفقتنا محامي السيد بلوصيف، وهو السيد بوخالفة، المحامي المرموق، وعندما دخلنا إلى بيت بلوصيف، تحدث والدي معه بكل رفق وأدب، وكان قد أطلق سراحه في عهد الرئيس زروال بجهود ومساعي المحامي بوخالفة، وتحدث بلوصيف وعليه أثر الحسرة والأسف، لا أدري لماذا اعتقلوني، وما هو ذنبي يا ترى من هذا الاعتقال الذي مسّني، وفي الحقيقة أن سبب الاعتقال المعروف تاريخيا هو رفض السيد بلوصيف منح فرنسا الصفقة المتعلقة بالتغطية الجوية للجزائر.
وللتذكير أنه بعد مدة قصيرة من اندلاع الحرب بين المغرب والبوليزاريو، اتضح للجزائر أنها تفتقر لتغطية جوية، ولإزالة هذا العجز الخطير جرت مناقصة دولية بمشاركة خمسة بلدان هي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا ومجموعة دولية تخص إيطاليين ويابانيين وألمان وسويسريين.
وتم دراسة العروض عن طريق ثلاث لجان لعدة شهور، وأعدت خلاصات بشأن كل مشارك لوزير الدفاع ورئيس الدولة وهو الشاذلي بن جديد، والنتيجة التي وصلت إليها اللجان أنها أزاحت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا لأسباب لغوية، وفرنسا كدولة استعمارية.
وبقيت في السباق المجموعة الدولية، ومما يجب ذكره أن هذا الخيار أحرج الشاذلي بن جديد، لكونه وعد فرانسوا ميتران بأن تكون صفقة التغطية الجوية من نصيب فرنسا (أي رادارات التغطية الجوية)، وأدى ذلك إلى قطيعة بين الجنرال بن لوصيف والرئيس الشاذلي، ومما زاد من تأزم الوضع بين فرنسا وبن لوصيف، أنه رفض تحليق الطائرة المقلة لرئيس الأركان الفرنسي العائد من دكار في منطقة تيندوف الجزائرية، وكذا رفضه عبور سرب من الطائرات للإقليم الجزائري باتجاه تشاد، فوجد الفرنسيون أن هذه الفرصة مواتية بالنسبة إليهم لإزاحة بن لوصيف من منصبه كأمين عام لوزارة الدفاع على يد الرئيس الشاذلي بن جديد.
وخلاصة القول أن تقرير الجنرالات المشهور يعد في نظر البعض مجرد اتهام باطل في حق الجنرال بن لوصيف الذي كان يعتبر خليفة لرئيس الدولة. وأن إزاحته من أعلى هرم الجيش أفرح خصومه الذين كان لهم طموح في خلافة بن جديد قبل أحداث أكتوبر 1988. أثناء وجودنا في منزل الجنرال بن لوصيف الذي تناولنا عنده فطور الصباح تحدث عن مأساته في السجن، ومحاكمته من طرف لجنة قضاة من العسكريين، ثم اعتقاله، وقال لوالدي أنه كتب القرآن الكريم كله بخط يده داخل السجن، وذهب إلى داخل منزله، فجلب إلينا القرآن الكريم بخط مغربي جميل وقال لنا: أنه يفتخر بكتابة القرآن.
                                                                انتهى

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.