حقيقة سانت إيجيديو أو قصة المصالحة التي أجهضها النظام

هكذا ساهم الشيخ السليماني في جمع شمل الفرقاء في إيطاليا /              الجزء الأول
سانت ايجيديو.. قصة المصالحة التي أجهضها النظام

                               د. أحمد السليماني 

سانت ايجيديو نظّمت لقاءات سلام دولية ونجحت فيها
هكذا اتّصلت "سانت ايجيديو" بالشيخ الحسين السليماني لدعوته لحضور لقاء عن الجزائر




بادئ ذي بدء أود
شر من حوارات في جريدة "الشروق اليومي" الغرّاء مع أعضاء فاعلين في جبهة الإنقاذ الجزائرية، سواء أكان الشيخ مراني أو الشيخ كمال ڤمازي والشيخ سحنوني، وكل منهم أدلى بدلوه في الكشف عما يختلج في صدورهم حول أزمة الفيس، ويعد ذلك إثراء لكتابة تاريخ هذه الحركة، بل قل هذا الحزب الإسلامي الذي أجهض مشروعه مع الأسف من قبل معارضين للتيار الإسلامي والمشروع الإسلامي، وما وقف المسار الانتخابي في عام 1992 إلا طعنة غادرة لمسار التعدّدية الحزبية والديمقراطية الحقّة، فوقع ما وقع.

ونعود والعود أحمد إلى حوار عقد روما والمعروف بلقاء "سانت إيجيديو"، فإنه كان أرضية ملائمة للخروج من الأزمة السياسية الخانقة التي أعقبت وقف المسار الانتخابي في عام 1992، والتي أدت إلى حرب أهلية حقيقية في الجزائر سقط من جرائها مائتا ألف قتيل، فضلا عن المفقودين، وفيما يتعلق بدور والدي الشيخ الحسين السليماني في عقد روما الذي جرى في شهر جانفي 1995م بمقر جمعية "سانت إيجيديو"، فأودّ أن أؤكد أن والدي وهذا ليس تبجّحا وتباهيا، هو أول من قام بالاتصال مع مجموعة "سانت إيجيديو"، بمعية أخي الدكتور محمد السليماني، أستاذ مقارنة الأديان وعضو مؤسس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكانت تربطهما علاقة صداقة وموّدة مع مجموعة "سانت إيجيديو" منذ منتصف الثمانينات، وكانت هذه المجموعة ولاسيّما المؤرخ الإيطالي عضو فعال في "سانت إيجيديو" ونعني به أندري ريكاردي (الذي يشغل اليوم وزير التعاون الإيطالي في الاتحاد الأوروبي)، وكانت مجموعة "سانت إيجيديو" قد قامت بزيارة إلى بيتنا في مدينة المدية بصحبة الأب تيسي، وذلك في منتصف الثمانينات، وكان برفقتهم مجموعة من الشباب الإيطالي من المسيحيين التابعين لسانت إيجيديو، وتناولوا مع والدي طبق البصطيلة من إعداد زوجتي فرح فرج الله، أطال الله في عمرها، والطبخ المغربي تعودناه في منزلنا، لأن أمي مغربية الأصل. أجل، لقد قام أعضاء "سانت إيجيديو" بزيارة صداقة وسياحة لمدينة المدية، وعرجوا في هذه الزيارة ومازلت أذكر على دير تبحرين، واتصلوا بأعضاء الدير من الرهبان بما فيهم الطبيب الفرنسي المشهور الذي يداوي المستضعفين من الفقراء العاكفين في حي تبحرين، والرمالي ومجاشكير وغيرها من أحياء المدية، وكما قلت فإن علاقة الصداقة بين والدي الشيخ الحسين وأخي د. محمد مع مجموعة "سانت إيجيديو" أثناء زيارة أخي ووالدي لأوروبا لشراء سيارة من ألمانيا فعرجوا أثناء طريق العودة وزاروا طائفة مجموعة "سانت إيجيديو"، وكان ذلك في بداية ثمانينات القرن العشرين، وكان هناك نقاش مثمر بينهم، هذا مع العلم أن أخي خريج جامعة أم القرى بمكة، وحاصل على دكتوراه دولة من جامعة محمد الخامس في الرباط، وكان مواظبا على حضور ملتقيات الفكر الإسلامي في عهد المرحوم مولود قاسم وما بعده، وأنا أيضا كنت معه أحضر هذه الملتقيات، وكذا أختي د. عائشة السليماني التي قدمت محاضرات عديدة في تخصصها الكتاب والسنة.

عقد روما طالب بالإفراج عن قيادات الفيس وعودته للنّشاط ووقف القتل والتعذيب

وفي بيتنا بمدنية المدية جرى نقاش حاد مع تعارض أفكار، وكان لي تحفظ كبير حول مسألة ألوهية عيسى عليه السلام عند المسيحيين، ومازلت أذكر أن النقاش حول هذا الموضوع شارك فيه الراهب كريستيان الفرنسي، الرجل الطيب الذي كانت تربطنا به علاقة مودة، وكان مقيما في دير تبحرين منذ سبعينيات القرن الماضي، ومما يؤسف أنه أعدم أثناء هجوم على دير تبحرين من طرف مجموعة مسلحة، حيث قتل سبعة رهبان في ظروف مأساوية جدا، على كل حال فإن والدي هو عالم أزهري، حصل على شهادة عليا من كلية أصول الدين في جامع الأزهر في عهد شيخ الأزهر مصطفى المراغي أيام حكم الملك فاروق رحمه الله، وكان والدي معجبا أشد الإعجاب بالملك فاروق، لأن في عهده كانت مصر تنعم بالديمقراطية والرخاء والتضامن الاجتماعي عكس عهد الضباط الأحرار الذين سرقوا الثورة من اللواء محمد نجيب، ومما قاله لي والدي أن الملك فاروق كان ملاكما ماهرا، حيث كانت رياضته المفضلة، ومما يجب ذكره في هذا المقام أن والدي درس مع الشيخ عميمور والد الدكتور محي الدين عميمور، مستشار الرئيس بومدين والرئيس الشاذلي، ولكن الشيخ عميمور كان أكبر سنا من والدي حسب رواية والدي والعهدة على الراوي كما يقال، ولكن شهادة لله أن والدي الشيخ الحسين كانت تربطه علاقة مودة ومحبة صادقة مع الشيخ عميمور ويجمعهم طلب العلم في رحاب جامع الأزهر الشريف.

وأعود إلى مسألة عقد روما الذي لم يدوّن بعد مجريات هذا اللقاء الذي يعدّ بادرة سلمية كانت لو نجحت، ولو تقبلها النظام السياسي القائم يومئذ فإن الوضع المتأزم سينتهى وتعود البلاد إلى المسار الديمقراطي المبني على احترام التداول على السلطة والعود إلى الحكم الراشد.

فبعد اتصالات بين والدي الشيخ الحسين الالسليماني وأخي محمد الالسليماني مع أعضاء في "سانت إيجيديو" الذين أصيبوا بصدمة من الحرب الأهلية التي أعقبت وقف المسار الانتخابي فاقترح الشيخ الحسين الالسليماني على البروفيسور المؤرخ ريكاردو وأعضاء آخرين أن يعقد اجتماع للأحزاب الوطنية المؤيدة للحل السلمي للأزمة الجزائرية الناتجة أساسا بسبب وقف المسار الانتخابي واعتقال شيوخ جبهة الإنقاذ وظهور بوادر العنف في الجبال والمدن، كل هذا أدّى إلى القيام بخطوات من أجل عودة السلم .

وفيما يتعلق باجتماع "سانت إيجيديو" كان أخي د. محمد بالتنسيق مع رئيس جمعية "سانت إيجيديو" قد اتفقا على عقد ندوة روما، بعد اتصالات مكثفة مع ممثلي الأحزاب الفاعلة في الساحة السياسية الجزائرية، وبعث رئيس الجمعية أندريا ريكاردي ببرقية فاكسا لي نسخة منها وهي مؤرخة في روما بتاريخ 15 نوفمبر 1994 إلى والدي الشيخ الحسين، وهي دعوة رسمية لحضور ندوة روما في مطلعها جاء ما يأتي: "إلى فخامة الشيخ حسين الالسليماني بالجزائر"، وهي مكتوبة بالفرنسية وفي مضمونها العام أكد رئيس جمعية "سانت إيجيديو" أنها جمعية دولية، جرى تأسيسها في روما عام 1968م، والتي تعمل في ميادين العون ومساعدة الفقراء، والحوار ما بين الديانات، والبحث في السلام، وإن الجمعية كان لها السبق والمبادرة أصلا في لقاءات دولية من أجل السلام التي عقدت في كل عام منذ عام 1986م مع مشاركة قوية دائمة لزعماء الأديان عالمية كبرى وشخصيات سياسية مرموقة عالميا منهم الرئيس الأسبق غورباتشوف، والرئيس موغابي من زيمبابوي وشيسانو من الموزمبيق، والرئيس سواريز من البرتغال، إحساسا بالأوضاع المتردية منذ مدة لمشاكل إفريقيا، فإن جمعية "سانت إيجيديو" تقوم بإنجاز أعمال إنسانية لها صبغة سلمية في القارة الإفريقية، وهذا المضمار أدى بهم (أي جمعية إيجيديو) إلى العمل الميداني في الموزمبيق، البلد الجريح بسبب 17 سنة من الحرب الأهلية، وكانت للجمعية قناعة أنه بدون سلام لا يمكن أن يتحقق أي شيء، وهكذا، فكانت المبادرة بالحوار بين الأطراف المتنازعة، وتوجت هذه المساعي بمفاوضات سلام استؤنفت في جوان 1990 بمقر "سانت إيجيديو" في روما، وخلال مسار مفاوضات السلام هذه التي دامت عامين حتى نهاية المفاوضات في مقر الجمعية بروما، والتي أدت إلى التوقيع على اتفاق السلام في 4 أكتوبر 1992 بسانت إيجيديو، وتحدث في هذه البرقية صاحب الرسالة اندريا ريكاردي أنه هو الذي ترأس مجموعة الوسطاء في المفاوضات بين الفرقاء في الموزمبيق آنف ذكرها.

مهري، بن بلّة، آيت أحمد، جاب الله في "سانت ايجيديو"

وبعد ذلك بأيام معدودات تم إنجاز آخر، وهو بند من الاتفاق عن طريق انتخابات حرة شارك فيها كل الفرقاء الذين كانوا أطرافا في الحرب الأهلية في الموزمبيق.

وواصل ريكاردي في رسالته إلى والدي الشيخ الحسين قائلا: وفي إطار أرضية الحوار والبحث عن السلام، فإن الجمعية قامت بمبادرة مؤتمرات وندوات كانت في غالبيتها حول لقاء حوار إسلامي - مسيحي، ونظمت جمعية "سانت إيجيديو" زيارات هامة في إيطاليا والفاتيكان لشخصيات مرموقة من بلدان المغرب العربي، والشرق الأوسط، وافريقيا (دعوة أندري ريكاري رئيس المحفل الديني لمشاركة الشيخ الحسين في اجتماع سانت إيجيديو).

وقبل تقديم الدعوة إلى والدي الشيخ الحسين لحضور ندوة روما، تحدث ردكاردي عن مناسبات للقاء مسؤولين سياسيين متدينين ومثقفين سواء في الجزائر أو بمناسبة زياراتهم لروما وإيطاليا، حيث عقدت لقاءات في مناسبات عديدة .

وواصل ريكاردي مبيّنا لوالدي: أنه لهذا لغرض فقد عزمنا (يقصد الجمعية) تنظيم ندوة حول الجزائر التي ستعقد في روما خلال 21 و22 نوفمبر من عام 1994م، ويسرنا أن ندعوكم أنتم الشيخ الحسين الالسليماني في هذه الندوة التي يحضرها مسؤولون جزائريون لأحزاب فاعلة في الساحة السياسية وشخصيات حكومية، وهذا الاجتماع لا يعد الحوار الذي كان من الأجدى والأفضل أن يعقد ما بين الجزائريين في الجزائر نفسها، ولكنه نقاش حر وأصيل، يرتكز على استغلال وجهات نظر سياسية لكل مشارك في الندوة. وواصل رئيس جمعية "سانت إيجيديو" حديثه في رسالته لوالدي أنه في هذا الملتقى سيجري دعوة الصحافة الإيطالية والعالمية، وكذلك ممثلي الهيئات السياسية والاقتصادية الإيطالية (من إمضاء رئيس الجمعية أندريا ريكاردي).

لو تقبّل "النظام" نتائج اللقاء لانتهى زمن الأزمة وإراقة الدّماء

وفي الجزائر توّجت الاتصالات المكثفة بين والدي الشيخ الحسين وأخي محمد الالسليماني الذي لعب دورا ديناميكيا في جمع أحزاب المعارضة الجزائرية التي تدين العنف، وتطالب بإلغاء قرار حل الإنقاذ بعد وقف المسار الانتخابي.

ومما يجب ذكره أن بادرة "سانت إيجيديو" أدّت إلى أرضية اتفاق، وانبثق عنها إلى الملأ بوثيقة بعد اجتماعات استغرقت أسبوعا، وحرر العقد المتكون من خمس صفحات وكتب باللغة الفرنسية أصلا مع توقيع ثمانية أحزاب وجمعيات من بينها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وجبهة التحرير الوطني (الحزب الوحيد سابقا)، وجبهة القوى الاشتراكية، والحركة من أجل الديمقراطية في الجزائر، ويمثل هذان الحزبان الزعيم التاريخ حسين آيت أحمد، والزعيم الرئيس السابق أحمد بن بلا، ولعب والدي الشيخ الحسين الالسليماني دورا فعالا في مجريات اللقاء، مما يجب ذكره أن لقاء روما حضره أيضا الشيخ جاب الله رئيس حركة الإصلاح، والشيخ محفوظ نحناح، وبوكروح، والمحامي الكبير المدافع عن حقوق الإنسان السيد علي يحيى عبد النور، والتزم والدي بالدفاع عن عودة الفيس للساحة السياسية، وإعادة الاعتبار له، وشاطره في هذا المنحى السيد عبد الحميد مهري أمين عام جبهة التحرير الوطني يومئذ.

وصرح صديق أخي محمد الوفي أندريا ريكاردي، المسؤول الرئيسي عن جمعية "سانت إيجيديو" أن عقد روما ووثيقته المنبثقة عن المؤتمر هي اقتراح سلام يعرض على كافة الفاعلين على الساحة الجزائرية.

والذي حيّرني كثيرا في مسألة رفض السلطة يومئذ لعقد روما، أن مضامين عقد روما كان لها طابع سلمي، فلماذا عدم القبول بأرضية اجتماع "سانت إيجيديو"، والذي أدهشني فعلا في شهر جانفي من عام 1995 ما وقع في الشارع الجزائري هو خروح الآلاف من الناس بإيعاز من السلطة لأجل التنديد بلقاء عقد روما، حاملين لافتات مكتوب عليها "لا لسانت إيجيديو"، وهو شيء مضحك فعلا، ومسرحية مفتعلة، لا تغنى ولا تسمن من جوع، وكما هو معلوم أن زعماء وممثلي أحزاب المعارضة الجزائرية الرئيسية أمضوا اتفاقا يدعو إلى إدانة وإيقاف العنف بمختلف أشكاله، وإلى التفاوض بين الأطراف المتصارعة، ولأعضاء وعقد روما صبغة رسمية، حيث حضر حفل التوقيع رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الإيطالي ومندوبون عن بعض الأحزاب الإيطالية وعن سفارات أمريكا وفرنسا وإسبانيا.

بالنسبة إلى اتفاق "سانت إيجيديو" الذي كان والدي الشيخ الحسين هو مهندس اللقاء بالتنسيق مع أخي والمجموعة الدينية في الفاتيكان التي تدعى "سانت إيجيديو"، وهي تدعو أساسا إلى السلم وحوار الأديان والتآخي بين البشر، فلها طابع سلمي محض، وانقسم الاتفاق إلى ثلاثة أقسام: الأول القيم والمبادئ، وينص على الطابع الجمهوري والديمقراطي للدولة في إطار مبادئ الإسلام، وتصريح ثورة نوفمبر 1954، وعلى رفض العنف لتسلم السلطة أو الاحتفاظ بها، وعلى احترام حقوق الإنسان العامة والفردية، والمعتقدات الدينية، والتداول على السلطة عن طريق الانتخاب، وعدم التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو اللغة، وعلى عدم تدخل الجيش في السياسة وعودته إلى مهامه الدستورية في حماية التراب الوطني ووحدته. كما نص عقد روما على أن مكونات الشخصية الجزائرية هي الإسلام والعروبة والأمازيغية.

إخراج السلطة لمظاهرات رفعت فيها "لا لسانت ايجيديو" مسرحية مفتعلة

وفي القسم الثاني من عقد روما يدعو إلى الإفراج عن شيوخ قادة جبهة الإنقاذ، وإلغاء قرار حل جبهة الإنقاذ، وإلى السماح بحرية الصحافة والاجتماع، وإيقاف التعذيب وتنفيذ أحكام الإعدام والإعدامات خارج إطار القضاء، وإيقاف عمليات الانتقام ضد المدنيين، ويدعو إلى إدانة العنف والإيقاف الفوري لعمليات الاغتيال التي تستهدف المدنيين والأجانب والأملاك العامة.


ويتضمن الاتفاق أرضية مفاوضات قادمة مع النظام، ويطالب اتخاذ إجراءات سابقة لفتح المفاوضات، كما طالب الاتفاق احترام دستور 1989، وأن لا يتم تعديله إلا بواسطة المؤسسات الدستورية الانتخابية.              

*بقلم د. أحمد السليماني ـ نجل الشيخ الحسين السليماني

الشيخ‮ ‬الحسين‮ ‬سليماني‮ ‬في‮ ‬سطور


قرأ‮ ‬الشيخ‮ ‬الحسين‮ ‬السليماني‮ ‬القرآن‮ ‬الكريم‮ ‬ومبادىء‮ ‬الفقه‮ ‬والقواعد‮ ‬في‮ ‬زاوية‮ ‬سيدي‮ ‬عيسى‮ ‬بناحية‮ ‬بومدفع‮ ‬الواقعة‮ ‬   بين‮ ‬وامري‮ ‬وحمام‮ ‬ريغة،‮ ‬ثم‮ ‬بعد‮ ‬ذلك‮ ‬توجّه‮ ‬إلى‮ ‬جامعة‮ ‬القرويين‮ ‬لطلب‮ ‬العلم‮.‬
وبعد ذلك توجّه إلى الحج ومنه إلى القاهرة فانتسب إلى جامعة الأزهر الشريف حيث قضى عاما واحدا في القسم العالم ثم التحق بكلية أصول الدين وبعد تخرجه منها رجع إلى الجزائر فاشتغل بالتعليم، وفتح مدرسة في المدية فأغلقت على يد الاستعمار في عام 1939م، ثم شرع في الدروس‮ ‬المسجدية‮ ‬فمنعته‮ ‬السلطات‮ ‬الفرنسية‮ ‬منها،‮ ‬فإلتحق‮ ‬بالحركات‮ ‬السياسية‮ ‬المتمثلة‮ ‬في‮ ‬حركة‮ ‬جمعية‮ ‬العلماء‮   ‬وحزب‮ ‬الشعب‮ ‬فكان‮ ‬الشيخ‮ ‬الحسين‮ ‬يعمل‮ ‬في‮ ‬الجبهتين‮.‬
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية أجبر الفرنسيون الشيخ على التجنيد، ولكن حجزوه بثكنة عسكرية في مليانة بحيث لا يخرج منها ولا يتصل بالجيش الفرنسي مدة أربعة أشهر، ولكن عند هزيمة فرنسا في 1940 على يد الألمان أطلق الفرنسيون سراحه وكان يومئذ عضوا في حزب الشعب الجزائري، وقد أسس الخلية الأولى لحزب الشعب في مدينة المدية ثم في قصر البخاري وكان في ذلك في 1941م، ثم شرع في تكوين الأسس لقيام ثورة مسلحة ضد الفرنسيين مع الدكتور الأمين دباغين رحمه الله، ولكن بعد خمسة عشر يوما من خروجه بعد إطلاق سراحه من الثكنة أخذه الفرنسيون إلى سجن سركاجي ثم نقلوه إلى قسنطينة فبقي نحو أربعين يوما ثم أرجعوه إلى سجن باب الوادي حيث يوجد مقر الإدارة العامة للأمن الوطني اليوم، فبقي الشيخ الحسين نحو الشهرين، ثم فنقلوه بعد ذلك إلى معسكر جنين بورزق (الواقع ما بين عين الصفراء وبشار) ومكث فيه مدة عامين‮ ‬ونصف‮ ‬مع‮ ‬الأشغال‮ ‬الشاقة‮.‬
عند اندلاع الثورة المسلحة في غرة نوفمبر 1954 اندمج الشيخ الحسين مع الثورة وكان يعقد الاجتماعات في إطار جبهة بالرباط ودار البيضاء وكان على صلة دائمة مع السيد عبد الحفيظ بوصوف الذي في تنظيمه المخابرات الجزائرية وفي نفس الوقت عمل في جهاز الدعاية والتسليح فكان‮ ‬يهرب‮ ‬الأسلحة‮ ‬من‮ ‬قواعد‮ ‬فرنسية‮ ‬وأمريكية‮ ‬موجودة‮ ‬في‮ ‬ناحية‮ ‬برشيد‭.‬
بعد الاستقلال دخل الشيخ الحسين السليماني إلى أرض الوطن ولكنه لم يمكث طويلا حتى هاجر من جديد إلى المغرب الأقصى لأنه كان له خلاف مع الرئيس أحمد بن بلا، وعاد إلى المغرب الأقصى وبعد انقلاب 19 جوان عاد إلى الجزائر في عام 1966 ليعاني من التسلّط من جديد وخلال الثمانينيات‮ ‬عانى‮ ‬من‮ ‬تضييق‮ ‬الحريات‮ ‬وسلب‮ ‬حرية‮ ‬السفر‮ ‬بحجز‮ ‬جوازات‮ ‬السفر‮ ‬لثلاثة‮ ‬أعوام،‮ ‬كما
عاني‮ ‬من‮ ‬التضييق‮ ‬والإقصاء‮ ‬بسبب‮ ‬مواقفه‮ ‬السياسة‮ ‬المناهضة‮ ‬للسلطة‮ ‬منذ‮ ‬عهد‮ ‬بومدين‮ ‬وإلى‭ ‬غابة‮ ‬وقف‮   ‬المسار‮ ‬الانتخابي‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1992‮ ‬حيث‮ ‬كانت‮ ‬له‮ ‬مواقف‮ ‬حاسمة‮ ‬في‮ ‬سبل‮ ‬حل‮ ‬الأزمة‮ ‬تجلت‮ ‬في‮ ‬عقد‮ ‬روما












الشيخ السليمانيهذا ما حدث بين نحناح وأنور هدام في سانتيجيديو /     الجزء الثاني
علي بن حاج حاول الإقناع بالطرق الشرعية أنّ "التفاوض" مشروع

                          د. أحمد السليماني 


زروال يرفض التفاوض مع "الشيخ الحسين سليماني" بدعوى أنّهم يمثّلون جيل أوّل نوفمبر
آيت أحمد يطالب الإسلاميين بإدانة الاغتيالات

..وبعد هذا المؤتمر الذي عقد في روما بدأت مؤشرات إيجابية في أول وهلة، حيث ترددت معلومات في الجزائر عن إمكانية تجاوب أطراف في السلطة وعلى رأسها الأمين زروال مع بعض مطالب المشاركين في الندوة، علاوة على ذلك اعتبرت جبهة الإنقاذ أنها تعتبر القرارات خطوة إيجابية، موضحة أن توقيع الإنقاذ على نص البيان الختامي، يؤكّد مساهمتها للوصول إلى حل سلمي، وعلى كل حال ساهم الشيخان عباسي مدني وعلي بن حاج في رسم الخطوط العريضة لما تمّ التوافق عليه في روما، وظهر ذلك جليا في رسالتهما إلى المجتمعين ولقائهما مع الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني عبد الحميد مهري.

ولكن بعد ذلك بأيام، وقعت تطورات مخيبة للآمال تتمثل فيما يلي، حيث إن الرئيس زروال عقد اجتماعا مع قادة الجيش قدمت خلاله خلية أزمة تقريرا عن ندوة روما وجاء في التقرير توصيات منها:

١ مواصلة تعبئة الرأي العام ضد ندوة روما، وتحضيرا للانتخابات الرئاسية.

٢ رفع دعوى على شخصيات شاركت في الندوة وسحب جوازات سفر.

لقد وقع إجهاض قرارات عقد روما في المهد كما يقال، من طرف الحكم القائم يومئذ.

وبعد عودة والدي من لقاء روما طلب مني أن أصحبه إلى جنان المفتي للقاء الشيخين عباسي وعلي بن حاج، وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا، ولكنه قبل ذلك كانت هناك مساع قام بها والدي الشيخ الحسين لرأب الصدع وخلق حوار وتوافق بين السلطة وجبهة الإنقاذ والمسلحين القابعين في الجبال لإقامة هدنة، ووقف العنف الشامل، وسعى كثيرا في هذا المضمار من خلال الاتصالات المكثفة مع كل الأطياف.

وقبل الخوض في مساعي والدي، أودّ أن أسرد بعض الوقائع التي جرت بعد اجتماع عقد روما، منها وثيقة كتبها أخي محمد السليماني حفظه الله مؤرخة في 21 و22 نوفمبر 1994 م، وهي عبارة عن بيان مكتوب بخط يده تتعلق باجتماع تمهيدي للاجتماع الكبير الذي عقد في جانفي 1995.

وجاء في الوثيقة ما يأتي ذكره: تبين أن المشاركين في الملتقى حول الجزائر والمجتمعين بروما يومي 21 و22 نوفمبر 1994 (أي عام قبل انعقاد الندوة المشهورة في جانفي 1995) ورد أن المشاركين في الملتقى حول الجزائر والمجتمعين بروما يشيدون بجمعية سانت إيجيديو على المبادرة التي اتخذتها لتنظيم الملتقى حول الجزائر، والذي مكّن من تبادل المعلومات والاتصالات المثمرة، ويؤكدون ضرورة توفير قناة إعلامية حرّة كاملة ودائمة باتجاه الرأي العام الغربي، ويسجلون (أي المجتمعون) أن هذا الملتقى يشكل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه.

ويأملون أن يكون هذا الملتقى بداية سلسلة اتصالات نافعة تهدف إلى الخروج من المأزق، وإلى فتح مفاوضات حقيقية.

ويؤكدون معارضتهم لكل تدخل أجنبي، كما يستنكرون ويأملون أن تكون هذه المبادرة متبوعة بمبادرات أخرى مماثلة.

ويدعون جمعية سانت إيجيديو إلى أن تستمر في دورها كقناة إعلامية، مبدية تشابك الأزمة الجزائرية، وهادفة إلى الخروج من سطحية العرض وازدواجيته، وإلى توفير المناخ والفرصة لملتقيات أخرى، كلما وحيثما توفرت الشروط لذلك.

وحسبما أخبرني أخي د. محمد السليماني أن البروفيسور أندري رديكاردي رد في افتتاح ندوة سانت إيجيديو في شهر جانفي 1995 على انتقادات رسمية جزائرية متسائلا: لماذا يبدو غريبا أن تحتضن روما ملتقى حول الجزائر بين ممثلي القوى السياسية التي تشعر بالحاجة للتحادث فيما بينها؟ مضيفا أن أشياء كثيرة تجمعنا كإيطاليين بالجزائر.

وأكد ريكاردي بأن الجزائريين مسؤولون عن مصيرهم، وواجبهم أن يتحدثوا بحرية. ومما يجب ذكره، لفت نظري مقالة سياسية نُشرت في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ ٢٢ نوفمبر 1994م، شهرا قبل انعقاد ندوة روما، فقد سأل الصحافي في الجريدة أندريا ريكاردي عن علاقة جمعية سانت إيجيديو بالفاتيكان، فنفى وجود أية علاقة عضوية ومباشرة، مؤكدا على أنها جمعية مستقلة، ولكنها جزء من الكنيسة الكاثوليكية، والأمر نفسه بالنسبة للحكومة الإيطالية التي رحبت بالملتقى منذ البداية، وسهلت انعقاده من دون أن تكون مسؤولة عنه.

وكما هو معلوم أن تهمة البحث عن تدخل أجنبي والبحث عن حل في الخارج، كما روّج لها النظام القائم يومئذ، وكذا البحث عن حل في الخارج، وعن حوار على الطريقة الإيطالية، فكان كل ذلك موضع ردّ من أغلب الشخصيات الجزائرية المشاركة، فحسين آيت أحمد ذكر أنه قبِل بالدعوة بصفة شخصية، أما السيد عبد الحميد مهري رحمه الله، فبرّر قبوله الدعوة بأنها دعوة غير إقصائية، لأنها دعت جميع الأطراف من دون إقصاء أي طرف، بينما ركز عبد الله جاب الله على أنّه جاء إلى هذه الندوة ليُسمع وجهة نظره إلى الغرب، معلنا رفضه لأيّ تدخل أجنبي، وصرّح نورالدين بوكروح رئيس حزب التجديد الجزائري إلى أن عقد هذا الملتقى تعبير عن فشل الجزائريين في إدارة الحوار في الجزائر، وأما رابح كبير وأنور هدام فقد رحبا بهذا الملتقى الذي قال عنه كبير بأنه كان يتمنى أن يكون مخصّصا لدراسة سبل التعاون بين الجزائر والمتعاملين معها، أو لدراسة سبل تدعيم السلام والأمن المتوسطي والدولي، ولكن ظروف الجزائر هي التي جعلته ينعقد لبحث الوضع الجزائري، أما محفوظ نحناح رئيس حركة ''حماس'' أشار إلى أنّ هذا الملتقى كان يمكن عقده في الجزائر، والحقيقة أنّ نحناح تفرّد بين المشاركين بمنحى تدخله الذي حلّل فيه عناصر الأزمة والحل في الجزائر فقد وضع مسؤولية الأزمة وبالتساوي على الحكم وعلى جبهة الإنقاذ! ووضع مسؤولية العنف يومئذ بالتساوي على قوى الأمن والمنظمات المسلحة، محاولا بذلك أن يمسك العصا من الوسط وأن يوازن بين انتقاده للحكم وهجومه على جبهة الإنقاذ، حيث هاجم الذين يتحدثون من وراء البحر، والذين يتحدثون من داخل دوائر الحكم المغلقة ولوحظ أن القضية الوحيدة بين المشاركين كانت بين نحناح وأنور هدام، اللذين لم يتبادلا الكلام أو التحية، كما لوحظ أن آيت أحمد - وهو موقف يؤسف له - وعبد الحميد مهري وعلي يحيى عبد النور، وأغلب الحاضرين لم يصفّقوا لنحناح بعد انتهاء كلمته، وتميز خطاب كبير بالتركيز على رغبة واستعداد الإنقاذ للحوار من أجل البحث عن حل تفاوضي سلمي شريطة أن تبادر السلطات إلى اتخاذ إجراءات تهدئة بإطلاق سراح المعتقلين وإعادة الاعتبار لجبهة الإنقاذ.

وأدان كبير عضو الإنقاذ كل الأعمال الإرهابية التي تمس مصالح الأمة والشعب التي تستهدف المدنيين الأبرياء والأجانب وخاصة النساء والأطفال، وأكد أن القراءة السياسية لرسائل علي بن حاج تبين إعلانه في كل مرة عن التزامه بالبحث عن حلّ تفاوضي، وأنه في كل رسالة يحاول أن يوضح للمقاتلين وبالطرق الشرعية أن التفاوض مشروع، وأما التيار الآخر فتمثل في حسين آيت أحمد وعبد الحميد مهري، وإلى حدّ كبير علي يحيى عبد النور، الذين التقوا في قراءة الأزمة وتحليلها في إدانة المجازر التي يتعرض لها السكان المدنيون.

قال آيت أحمد إن الضحايا المدنيين لقوى معادية للسلم الاجتماعي ليسوا فقط من الإسلاميين، بل إنهم نساء ورجال، ذنبهم الوحيد أنّهم يقطنون في أحياء ساخنة، وأضاف: كنا نعتقد أن الحكم في عهد زروال بعد كل هذا العدد من الضحايا سيراجع سياسته، ولكن خطاب رئيس الهيئة الرئاسية (يقصد الرئيس زروال الأخير يومئذ ''في أواخر 1994) بين خلاف ذلك، وطالب آيت أحمد بأن ترتفع وفورا أصوات إسلامية للتنديد بالاغتيالات، مؤكدا أنه لا يدعو لتدخل أجنبي كما يقال، وإنما يدعو لندوة وطنية عليا ذات سيادة تبحث مصير الجزائر، ويكون لها سلطة التنفيذ وهي دعوة قديمة ما انفك آيت أحمد يؤكد عليها.

أما السيد عبد الحميد مهري فقال: رأيناه مناسبا أن نذهب لنقول لأصدقائنا الأوروبيين ''قبل أن تتحركوا، عليكم أن تطّلعوا على حقيقة الأوضاع، مؤكدا على أن تعطيل المسار الانتخابي هو عمل خطير جدا، لم ينظر إليه كما يستحق من طرف الذين لا يعيشون داخل الجزائر، مشيرا إلى أن الشعب الجزائري ناضل من أجل حقه في الاقتراع والانتخابات منذ الأربعينات، وقال مهري إن ما يجري حاليا في الجزائر بعيد جدا عن أن يكون ظاهرة إرهابية، بل إنه معارضة ''مسلحة'' فأصبح لديها جثث مجهولة، وأضاف مهري أن العنف ليس وحيدا في الميدان، بل إن هناك حركة معارضة ضد النظام، وحركة احتجاج على مصادرة حرية التعبير السياسي.

وفيما يتعلق بغياب الحكم والأحزاب المؤيدة لقطع الحوار، فإن ملتقى سانت إيجيديو تحول رغم إرادة البعض إلى محاكمة للنظام الجزائري، علاوة على أنه ملتقى للحوار فعلا، فالحوار الرئيسي المهم والمطلوب كان من الواجب أن يكون بين النظام وجبهة الإنقاذ، مع أن الحوار بين جبهة الإنقاذ والأحزاب الأخرى لا يخلو من الأهمية، خصوصا إذا توصلت جبهة الإنقاذ مع جبهتي التحرير والقوى الاشتراكية إلى وضع تصوّر مستقبلي واضح، وملتقى سانت إيجيديو كان في إمكانه فتح الباب أمام ذلك، ولكنه لم يسمح بإنجازه، لأن صاحب القرار وهو الإنقاذ موجود داخل الجزائر وليس خارجها.

ورأى المراقبون يومئذ ـ وهو نوع من التكهنات ـ أنها لم تكن صائبة، لأنه تشدّد في الموقف المتعلق بالحوار، حيث اعتقد أن لقاء روما قد يدفع الحكم إلى العودة بسرعة إلى الحديث عن الحوار تحت ضغط الاهتمام الإعلامي الدولي، إضافة إلى أن لقاء روما كان له وقع وانعكاسات أيضا على موقف الدول الغربية مثل فرنسا مثلا وغيرها، ولوحظ أن السكرتير الثاني في سفارة الولايات المتحدة لدى الفاتيكان، قد حضر أعمال اليوم الأول، بينما حضر عدد من المسؤولين الإيطاليين الرسميين مثل رئيس بلدية روما ورئيس اللجنة الخارجية في مجلس الشيوخ، وحضر في اليوم الثاني نائب وزير الخارجية لشؤون إفريقيا.

وفي ندوة روما، دعي أنور هدام المسؤول في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المقيم في الولايات المتحدة، وكان يمثلها عمليا في الندوة، ومثل بقوة جبهة الإنقاذ أيضا والدي الشيخ الحسين السليماني وأخي الدكتور محمد السليماني، ولكن لأسباب خاصة كان تمثيلهما بعيدا عن الأضواء، فخلال الاجتماع الأول والثاني دافع الوالد الشيخ السليماني عن السلم الاجتماعي، بل ألحّ خلال الاجتماع للإفراج عن شيوخ الانقاذ، وإلغاء قرار حل جبهة الإنقاذ، وإيقاف التعذيب بجميع أشكاله من أجل عودة السلم والانفراج الحياة السياسية وعودة الاستقرار إلى ربوع الجزائر، وشاركه في هذا المسعى أخي الدكتور محمد.

وأثناء ظهور العنف، حاول والدي رحمه الله رأب الصدع عن طريق الوساطة بين السلطة وجبهة الإنقاذ، وكذا الجماعة المسلحة التي لجأت إلى الجبال والمداشر النائية.

ففي هذا المسعى، قام والدي بوساطة مستمرة، والتقى مرات عديدة الرئيس زروال قبل أن يصبح رئيسا للجزائر، وكان وزيرا للدفاع، فبدأ والدي جلسات حوار لها طابع سري مع السيد زروال كوزير للدفاع، حسبما أخبرني به والدي رحمه الله، والذي هو مدوّن في أوراق، فقال لي إنه كانت هناك لقاءات سرية بينه وبين قيادات الجيش الوطني الشعبي منهم جنرالات (اثنان وثلاثة)، وكذا مبعوثان من الرئاسة ووزارة الدفاع الوطني، جرت في الفاتح من ديسمبر ٣٩٩١م، جرى لقاء مباشر بين جنرالات في فيلا الرايس حميدو. وعلى كل حال كما قلت في ١ ديسمبر جرى لقاء مباشر بين جنرالات من الجيش الجزائري في هذه الإقامة التقليدية، كما أخبرني والدي الشيخ الحسين، وتوسّع اللقاء فيما بعد مع السيد الأمين زروال، وذكر لي والدي أن السيد الأمين زروال استهل الحديث المثمر بأن الجيش الجزائري مصمم على القضاء على الثائرين، حتى ولو مات منا عشرون ومات منهم واحد، فسنواصل عملية التطهير حتى النهاية، ويعني ذلك أننا لن نستسلم (في رأي السيد زروال)، وقد شرح له والدي الشيخ الحسين السليماني أنه جاء ليتفاوض معه بهدوء وبكل تسامح، فردّ عليه السيد اليمين زروال قائلا: أننا نمثل جيل ثورة أول نوفمبر، فرد عليه والدي فقال: أننا مع جبهة التحرير، وعملنا في جبهة التحرير جبهاويين، وقد بدأ هذا الحوار حول حلّ المشكل السياسي.
 

   

هكذا أعلن زروال وضع بلحاج وعباسي في إقامة جنان المفتي /                                   الجزء الثالث

عندما أطلق زروال أربع قيادات من الفيس ووعد بإغلاق المحتشدات

د. أحمد السليماني
الشيخ السليماني
الشيخ السليماني
.

 بعض المفرج عنهم من معتقلي الصحراء قتلوا فور وصولهم إلى بيوتهم

وقد سبق هذا الحوار حوار غير مباشر بين الشيخ الحسين السليماني والسيد علي كافي رئيس المجلس الانتقالي سابقا، وكان السيد كافي يريد حسبما قاله لي والدي التحاور حتى أنه طلب لقاء مباشرا في البداية ليجري حوارا معمقا حول سبل الخروج من الأزمة، ولكن وقع مالم يكن في الحسبان، حيث ألقى علي كافي خطابا سياسي ندد فيه بشكل شديد بالجماعة الإسلامية المسلحة، وكان يريد إطفاء هذا الجمرة المتعلقة بالعنف، هذا التصريح لم يعجب ولم يرض الشيخ الحسين السليماني فعَدَل عن الحوار المرتقب مع السيد علي كافي فيما بعد، مع العلم أن والدي كان ضد العنف مهما كان شكله ومصدره.
أما الوساطة المتعلقة بالحوار الثاني فكان الوسط فيها السيد الأستاذ منصف وهو محام من مدينة تبسة تعرفت عليه مرة في لقاء له مع والدي في فندق الأوراسي وهو إنسان مثقف ورجل طيب ويتسم بالهدوء والرزانة ومتشبع بخلق الإسلام وتبدو عليه الطيبوبة في ملامحه ومحياه، وكان السيد منصف بمثابة الوسيط الوفي بين الجيش الجزائري والشيخ الحسين السليماني الذي كان يسعى إلى إقناع الجماعة المسلحة بالنزول من الجبال والعدول على العنف عن طريق الحصول على ضمانات وتنازلات تخص وضع السلاح والاندماج في المجتمع، وهو ما يُسمى بالعفو الرئاسي وشمول قانون التوبة والرحمة الذي تحقق فيما بعد.
وقد نجح السيد منصف في ترتيب لقاء بين والدي الشيخ الحسين والسيد الأمين زروال، وأخبرني والدي في وثيقة دوّنتها، حيث اتفق السيد الأمين زروال والشيخ الحسين السليماني في لقاء 1 ديسمبر 1993م على إيقاف القتال من طرف الجماعة المسلحة مدة أسبوع كامل ثم سيتم إطلاق سراح شيوخ الإنقاذ، ثم بعد ذلك تجري المفاوضات المباشرة بين الشيوخ وممثلي الجيش الجزائري بحضور الشيخ الحسين السليماني، وبعد ذلك واصل والدي الشيخ الحسين مساعيه الحميدة من أجل إصلاح ذات البين بين الجيش، والجماعة المتبنية للعنف وجبهة الإنقاذ، وفي هذا الإطار عندما اعتلى السيد اليمين زروال سدّة الحكم كرئيس الجمهورية الجزائرية أسرع الوالد إلى تهئنتهبرئاسة الجمهورية، وقد طلب منه السيد منصف الوسيط بين الطرفين بأن يستعد للذهاب إلى رئاسة الجمهورية كما طلب منه تقديم تهاني اعتلاء السيد اليامين زروال منصب رئيس الجمهورية الجزائرية، وجرت خلال زيارة الوالد إلى السيد اليمين زروال محادثات مثمرة حول أفق المصالحة الوطنية وقانون العفو والرحمة، وبعدها بمدة وجيزة بعث والدي برسالة إلى فخامة رئيس الجمهورية السيد اليمين زروال - ولي نسخة منها أملاها عليّ والدي وكتبتها وتركت نسخة منها عندي، وهذه الرسالة مؤرخة وكتبت في مدينة المدية في 27 جوان 1994م - بدأها الوالد بالبسملة، وذكر ما يأتي: "فخامة الرئيس، تحية وسلاما أما بعد، واستهل والدي الرسالة الموجهة إلى الرئيس لقد سعينا باتصالنا بوزارة الدفاع وكان لنا أمل كبير في حسم الخلاف بمساعينا المتواضعة، وقد مرت هذه المحاولات بمراحل، غير أن المعرقلين يوجدون في كل جانب ومع هذا لنا أمل قويّ في الوصول إلى الحلّ مادام رئيس الدولة الجزائرية جمعت له أنواع السلطة العسكرية والمدنية ويمكن له الفصل في الأزمة الحالية (يواصل والدي مخاطبا السيد اليمين زروال) لأن هذه الظروف التي تمر بها البلاد هي التي هيّأت للسيد الرئيس ما كان يطلبه من توحيد قيادة المسلحين . 
قيادي في الجماعة المسلّحة للشيخ سليماني: "مستعدّون للهدنة ولا حوار مالم يتم تحرير عبّاسي وبلحاج"..
وقد حصل هذا التوحيد الآن، ويمكن الاتصال بهم، مع العلم أن قادة الجبهة السياسيين هم الذين سعوا في توحيد القيادة، وعلى هذا إذا أردتم (يواصل والدي) الحل للمشكلة فعليكم الآن على حسب معلوماتنا التفاوض معهم بمن فيهم الشيوخ، وبعد الاتفاق معهم في ذلك الوقت يطلبون إيقاف العنف ويكون ما يقولونه أو ما يصرحون به من كلام مسموع. والآذان لهم صاغية. 
وعليه يواصل الشيخ موجّها الرسالة إلى السيد الرئيس زروال "فإننا نقترح عليكم هذا الاقتراح بعد البحث الطويل ومناقشة بعض قادة الجبهة وبعض المسلحين الذين أعلنوا صراحة قائلين: من أجل هذا قمنا ولا يمكن لنا الهدنة (حسب ما صرحوا به) إلا إذا قامت الدولة الجزائرية بعفو وتفاوض مع المسجونين السياسيين بمن فيهم الشيوخ، وهذا الكلام (يواصل الشيخ الحسين) أخذته من بعضهم مباشرة.
وختم والدي الشيخ الحسين رسالته إلى السيد زروال قائلا: أرجو يا سيادة الرئيس أن تمعنوا النظر في اقتراحي وإن كانت لكم ملاحظات أو تعقيب فإنني مستعد لذلك بالإجابة عليها والسلام.
ومما يجب ذكره أن الشيخ الحسين توسع في الحوار مع الفرقاء السياسيين الذين لهم ضلع في الأزمة الجزائرية بل قل المأساة الوطنية، فحاول الحصول على هدنة من المقاتلين المعتصمين في الجبال والمقصود "الجماعة الإسلامية المسلحة" وهذا في عام 1993م حيث سعى والدي رحمه الله عليه كي يقع وقف القتال وعودة السلم عن طريق الحوار المنشود بين الجماعة المسلحة والسلطة السياسية التي فتحت صدرها للحوار في بداية عهد وزير الدفاع السيد اليمين زروال ثم رئيسا للجمهورية، فعثرت في أوراقي وملفي على رسالة بعثتها الجماعة الإسلامية المسلحة إلى والدي الذي طلب منها هدنة ووقف القتال، وهي مؤرخة بتاريخ 11 ديسمبر 1993م.
وفي الحقيقة أن هذه ممضاة من قائد للجماعة الإسلامية المسلحة ولكن بدون ذكر الاسم، وفي طليعة الرسالة جاء ذكر من الآية "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" صدق الله العظيم.
وبعد البسملة.. جاء "إلى الحاج الحسين حفظه الله ورعاه، وتحدث صاحب الرسالة ويبدو أنه أحد قادة الجماعة فقال: بلغنا نداؤك في الآونة الأخيرة (والمقصود هنا هو عام 1993م ) وذلك لتواجدنا في جبهات متعددة، وعلمنا بطلبك مقابلتنا من أجل إشعارنا بموقف السلطة الحاكمة التي تبحث عن مفاوضين من الجماعة الإسلامية المسلحة، وتعلمنا بأنّها قد قبلت بالشروط المذكورة، ويواصل القائد المعني في الجماعة الإسلامية المسلحة.. فمع علمنا بمدى الجهد الذي تبذله على كبر سنّك ونحن لا نجل غيرتك على دين الله إلا أننا نرى أن مجرد تصريح السلطة دون اتخاذ إجراءات فعلية لا يكفي للاطمئنان إليها والشروع في حوار حقيقي معها، ولن تكون هناك هدنة ولا حوار مالم يتم تحرير الشيوخ وعلى رأسهم عباسي مدني وعلي بن حاج وكل المساجين والمعتقلين، فهذا العمل وحده كفيل بفتح باب الحوار ودراسة الوضع المعاش، فعلى السلطة أن تبلغنا قبولها برسالة ممضاة من وزير الدفاع نفسه وتكون متبوعة بإطلاق سراح الشيوخ والمساجين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بوخمخم وعلي جدّي: "رغم ما تعرّضنا له من تعذيب وقمع إلا أنّا قبلنا اتّصالات لجنة الحوار الوطني لإنقاذ البلد ووقف الدّمار"
أما العضوان القياديان المفرج عنهما وهما عبد القادر حشاني وعلي جدّي فقد أمدني والدي الشيخ الحسين ببلاغ من إمضاء الرجلين العضوين في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وهذه الرسالة مؤرخة في 3 أفريل 1994م ويذكران عن حالتهما فيستهلان بما وقع من ظلم في حقهما قائلين: رغم أننا اتهمنا زورا وبهتانا، وحوكمنا ظلما وعدوانا وسجنا إلا لقول كلمة العدل التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أي الجهاد أفضل فقال: كلمة حق عند سلطان جائر.
و تطرّق العضوان القياديان في جبهة الإنقاذ لقمع السجن وتعرضهما للأذى البدني، والتعذيب النفسي والحرمان الفكري، ورغم هذا لم يمنعنا من قبول اتصالات ومناقشات لجنة الحوار الوطني أملا في إنقاذ البلاد والعباد من الدمار الشامل.
وبدأت الاتصالات معهما بوسطاء زعموا أنهم مكلفون من قبل لجنة الحوار أو وزارة الدفاع الوطني فرفضا هذه الأساليب الملتوية ثم اتصل بهما ثلاثة أعضاء من لجنة الحوار وقدموا أثناء المناقشات اقتراحات لم نجدها في مستوى ما أعربوا من رغبة في الحل السياسي والأمني للبلاد الجزائرية. ويذكر أن هذين العضوين أُمِرا من الشيوخ بضرورة البدء بتحقيق ثلاثة حلول تتمثل:
الأولى في استرجاع حرياتهم كاملة مع المبادرة بإطلاق سراحهم لأن السجن إكراه، والأمر الثاني هو التمكن من الاطلاع الشامل والكامل على وضع البلاد العام من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية حتى يتسنى لنا تصور الحل الشرعي والعادل لإنقاذ البلاد والعباد، وأما الطلب الثالث فهو التمكن من الاتصال المباشر والمشاورة الواسعة لأنهم يعتبرون أنفسهم بمثابة جزء من القيادة لا يقطع أمر دون التدبير مع الإخوان.
وتحدث جدي وبوخمخم الشيخان الوقوران عن اتصال جرى معهما من وزير الدفاع الوطني السيد اليمين زروال الذي اقترح عليهما خلال التحاور تدوين نداء للشعب الجزائري من أجل دعوة للهدوء والطمأنينة، وبعد دراسة المقترح تبين لهما أن هذه الفكرة غير مجدية وسابقة لأوانها، وكان تصوّرهما كيف نطلب من شعب راشد أبي والمقصود أنه شعب ناضج الذي انتزعت منه أول انتخابات حرّة منذ دخول الاستعمار الفرنسي أن يهدأ ويطمئن أو يسكت، وقد اغتصب حقه الشرعي في اختيار من يوليه أمره من أهل الأمانة والقدرة من أبنائه؟
وكيف نطلب من شعب مسلم عريق، ضربت دولته الإسلامية الأصلية التي كاد أن يعيد بناءها من جديد في إطار صحوة إسلامية معتبرة وواعدة منذ أن أسقطها الاستعمار أن يهدأ أو يطمئن أو يسكت وهو يرى ثمرة جهاد أجياله تعطّل وتغتصب.
ويذكر الشيخان ما ورد في بيان رئاسة الدولة الجزائرية من ذكر التزامات حصل عليها وزير الدفاع الوطني يومئذ من القادة المعتقلين بوضع حدّ للعنف فإن (حسب بوخمخم وجدي) الأمر أساسا يتعلق بإيجاد حل شرعي عادل يضع حدا للظلم السياسي والاجتماعي ويؤمن الأجيال الجزائرية من الصراع الدموي.
وفي هذه الوثيقة الهامة التي حرّرها الشيخان بوخمخم وجدّي وبعثها إلى والدي الشيخ الحسين كما سلف ذكره، هناك تأكيد صريح لكل من ناقشهما أن خطوات الحلّ ومراحله لا تناقش وتقدم "في طبق من ذهب" في السجن تحت الإكراه، بل في ميدان العمل بعد معرفة الواقع ومشاورة بقية قيادة الفيس، وتبادل الآراء مع الشركاء السياسيين وعلماء الأمة.
جدي وبوخمخم رفضا توجيه دعوة إلى التهدئة لأنّ ذلك حسبهم لا يأتي إلا بعد المشاورة والإلمام بالواقع
وأكد الشيخان في البيان حول تجسيد ثمرة هذه الاتصالات والمناقشات بحيث أعلن أمامهما السيد اليامين زروال من إطلاق سراح أربعة إخوة من قادة جبهة الإنقاذ دون قيد ولا شرط ووضع الأخيون عباسي وبلحاج في إقامة محددة إلى حين "جنان المفتي المقصود هنا" التي زارهما والدي رحمه الله في وقت لاحق وكنت معه في إحدى هذه الزيارات المتكررة لهما من طرفه.
وأعلن وزير الدفاع يومئذ من جملة ثمرة هذه الاتصالات سيتم غلق محتشدات الصحراء قبل عيد الفطر، ولكن حسب ما يعتقد فلم يتحقق من هذه الوعود في الواقع يومئذ (أي خلال 3 أفريل 1994) تاريخ صدور هذا البيان سوى خروج أخوين وإطلاق سراح بعض المعتقلين بالصحراء مع التذكير أن بعضا من هؤلاء قتلوا فور وصولهم إلى بيوتهم.
وإن الاطلاع الأولي على أوضاع البلاد العامة ومعاناة الشعب من سياسة القمع والفقر، وكبت حرية الدعوة والحرية السياسية، وقتل وتشريد الأبرياء وضمن هذا السياق قدم الأخوان بوخمخم وجدي اقتراحا كخطوة أولى كتمهيد للحلّ المنشود، يتمثل في طلب إجراءات عملية ضرورية كبارقة أمل لتجاوز المحنة.. وتتمثل في إجراءات عملية منها:
أولا: إكمال ما وعد به وزير الدفاع.
ثانيا: رفع الحظر السياسي عن جبهة الإنقاذ، وإطلاق سراح أطرها، وإعادتهم إلى مناصبهم، مع فتح مجال الحريات الدعوية والسياسية والخيرية.
المطلب الثالث الذي تقدم به الأخوان بوخمخم وجدي أطال الله في عمرهما هو وضع حدّ للتعذيب ومداهمات البيوت والمساجد والقتل العشوائي والجماعي، وقنبلة المداشر والجبال وإلغاء المحاكم الخاصة، وإيقاف الإعدامات، وكف بل قل وقف الاستفزازات التي تسلط على الشعب الجزائري المسلم تحت غطاء مبرّر القضاء على الإرهاب ولكنها ترمي في الحقيقة إلى ضرب وحدة الأمة وتجريدها من أصالتها وتحقيق مآرب أعدائها.                                    كما تهدف إلى نشر الخوف والرعب في المجتمع الجزائري حتى لا يتصدّى لأولئك الذين يريدون إيصال شروط الإفلاس التي قدمها صندوق النقد الدولي والتي تؤدي إلى الجوع والجهل والمرض في أوساط غالبية الشعب.   


              

الجزائر سيطرت عليها "قوّة خفية" عرقلت مساعي الإصلاح بين "السلطة" و"الفيس /                                                     الجزء الرابع"

تفاصيل جلسات الحوار بعد توقيف المسار الإنتخابي

                                                   بقلم : د. أحمد السليماني
                                                                  الشيخ السليماني

 تطرّف رضا مالك إلى جانب "الاستئصاليين" إهانة لمكانته التاريخية

 الشاذلي لجأ إلى الاستقالة بسبب ضغوط مورست عليه ولم يكن حرا أبدا


.. وفي وقت لاحق تحققت أغلبية مطالب الأخوين جدي وبوخمخم عند ظهور وجوه جديدة في السلطة السياسية بعد ما غادرالسيد اليامين زروال مقاليد الحكم، والذي حاول أن يلبي مطالب قادة الفيس، ولكن لم يستطع أن يفعل ذلك، وهذا ما سنراه أسباب عجزه في مقام لاحق، أجل لقد تم غلق المحتشدات وتوقف التعذيب والإعدام العشوائي وأطلق سراح الشيوخ الذين بقوا مدة في إقامة إجبارية في جنان المفتي، ولكن عندما رفضوا المساومة على المبادئ، ولاسيما بعد إنعقاد ندوة روما المعروفة بسانت إيجيديو، نلاحظ أن الآية انقلبت وأعيد وضعهما في السجن حتى إتمام إثنا عشر عاما سجنا، وهذا بسبب عدم رضوخهما للضغوط السياسية والمساومة على المبادئ فيما بعد، حيث أن بعد زوال نظام السيد اليامين زروال نلاحظ، أن مراكز القوى الضاغطة على مستوى السلطة رجحت الكفة للإستئصاليين الذين فرضوا حلولا ضد المبادئ الديمقراطية ومعارضة لكل مسار تسامحي، وله طابع إنساني كما هو معمول به على الصعيد العالمي (لقاء الوساطة لرأب الصدع بمبادرة من الشيخ الحسين السليماني في أكتوبر 1995).

إنها وساطة كانت بمبادرة من والدي الشيخ الحسين وجرت في 26 أكتوبر 1995، وقد حضرت هذا اللقاء الذي جرى في منزل الأستاذ المحامي القدير والمجاهد الفاضل السيد سعيد بوخالفة الذي كان متحمسا بشكل جيد للحوار بين الفرقاء في المأساة الوطنية بعد وقف المسار الإنتخابي في بداية التسعينيات، وهكذا جرى اللقاء وكان يطبعه الانسجام والاحترام المتبادل، وجمع هذا اللقاء الذي شارك فيه السيد سعيد بوخالفة الذي ساعد والدي في جمع بعض السياسيين الذين لهم وزن ونفوذ على الساحة السياسية الجزائرية، فجمع اللقاء في منزل بوخالفة بحي حيدرة الشيخ الحسين السليماني ـ والدي ـ رحمه الله وكنت حاضرا معه وحضر الجمع السيد شريف بلقاس،م عضو مجلس الثورة في عهد بومدين، وكذا عضو مجموعة وجدة المعروفة مع بومدين وبوتفليقة وڤايد أحمد ومدغري، على كل حال كان من جملة الحاضرين علاوة عن الشريف بلقاسم السيد محمد الصالح يحياوي، والسيد المحامي الكبير سعيد بوخالفة، والسيد محمود ڤنز والسيد عبد العزيز بلخادم، والجنرال المتقاعد الهاشمي هجرس، وافتتح والدي الشيخ الحسين السليماني اللقاء بدعوة المجتمعين إلى الالتفاف من أجل وضع حد لإراقة الدماء بين الجزائريين، وطلب والدي الشيخ الحسين أن تكون هذه اللجنة المباركة.. لجنة وساطة لإصلاح ذات البين، بين السلطة الجزائرية والجبهة الإسلامية للإنقاذ، وقال الشيخ الحسين السليماني أن لقاءات وحوار تمّت بين الفرقاء، ولكن لم يصل هذا الحوار إلى شاطئ الأمان مع الأسف، وهذا بسبب عراقيل قوة خفية لا ندري ما هي، تساءل والدي، والتي تعوق مسار الحوار بين السلطة والفيس -أي جبهة الإنقاذ- حيث عندما تشعر أن هناك بصيصا من الأمل للوصول إلى حلّ حتى تقف هذه القوة الخفية معرقلة لإيقاف الحوار، وهذا ما وقع في شهر جوان من عام 1995م  . 
مع العلم حسب ما علمت من جلسة الحوار هذه، أنه جرى اغتيال في ظروف غامضة السيد أبو بكر بلقياد الذي كانت له علاقة طيبة مع الزميلين الشيخين بوخمخم وعلي جدّي من جبهة الإنقاذ، والشهادة لله أنه كان رجلا متواضعا، رأيته مرات عديدة يسير في شارع "شاراس" بالقرب من الجامعة المركزية، يسير مشيا على الأقدام بلا حرس، مما أدهشني فعلا، وكان الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي هو بدوره شاهدته مرارا يسير وحيدا أو مع زميله في شارع ديدوش مراد بلا حرس يذكر، وهذه هي سمات الرجال المتواضعين، وإلا فلا، على كل حال السيد أبوبكر بلقايد رحمه الله كان عضوا في لجنة الوساطة أو العقلاء منوطا بها الاتصال مع الاستئصاليين من جنرالات والجماعة الموالية لحزب فرنسا، وهناك من ينعته بالاتجاه الفرانكفوني الجزائري. 
وقال لي والدي أن أبا بكر بلقايد كان يسعى في إطار اللجنة لرأب الصدع وإصلاح ذات البين بين السلطة السياسية الجزائرية والجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولكن شهادة لله كان أبو بكر بلقايد رحمه الله يتهرب ويقوم بالتسويف بين الحين والآخر عندما كان يدعوه والدي للاجتماع، وآخر مرة اتصل الشيخ الحسين به هاتفيا فقال له والدي يجب أن تختار المعسكر بالضبط الذي تعمل في إطاره.. هل أنت معنا (يقصد لجنة المصالحة)، أم معهم، فأقسم أبو بكرد بلقايد لوالدي أنه مع الحوار ومع دفعه إلى الأمام، وأنه ضدّ بقاء الجزائر في هذه الوضعية المزرية.
على كل حال، فيما يخص اللقاء الذي تم في فيلا بحيدرة بين والدي وأعضاء لجنة الحكماء مساء يوم الجمعة 26 / 10 / 1995، فقام سعيد بوخالفة بإعطاء كل عضو الكلمة، فتحدث في أول وهلة بعد كلمة الشيخ الحسين السليماني السيد شريف بلقاسم، وللتذكير فقط، أن سي بلقاسم عضو مجموعة وجدة مع رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة وڤايد أحمد والرئيس الراحل هواري، كانوا يمثلون تكتلا خطيرا في رئاسة الأركان بوجدة والناضور ضد الحكومة المؤقتة تحت قيادة صديق والدي ومؤازره السيد يوسف بن خدة، تحدث سي الشريف بلقاسم، قال أن الوضع الذي تعيشه الجزائر يتطلب وضع الرئيس السيد اليامين زروال أمام مخاطر العمل مع معارضة صورية غير ممثلة بصفة حقيقية للمجتمع المدني، فلا بد أن يفتح الحوار مع المعارضة الحقيقية، أي أعضاء عقد روما، فقال سي الشريف بلقاسم رحمه الله أن بوكروح وسعيد سعدي يعدان بل يعتبران عميلان لفرنسا، ولاسيما أنهما التقيا أخيرا مع السفير (كان ذلك في أكتوبر 1995) الفرنسي لكي يملي عليهما السياسة التي يجب اتباعها في الجزائر، واستنكر السيد شريف بلقاسم هذه الخطوة من المرشحين لرئاسة الجمهورية التي كانت ستجرى في وقت لاحق، وقال متهكما أن رضا مالك لو طلب مقابلة السفير الفرنسي فسيقابله في السفارة الفرنسية لا غير.. وكان السيد رضا مالك خلال أزمة الفيس اختار التيار الاستئصالي، وهذا خيار لا يرقى إلى مكانته التاريخية إبان ثورة الكفاح المسلح. وبعد هذا تحدث السيد الجنرال المتقاعد الهاشمي هجرس، فندّد بالتدمير الشامل الذي تعيشه الجزائر اليوم وحمّل مسؤولية ذلك للفيس والجماعة المسلحة، فردّ عليه الشيخ الحسين السليماني فقال: أن السلطة كذلك تتحمل المسؤولية، فمن الذي قام في بداية الأزمة بالاعتقالات والتقتيل الجماعي، أليست السلطة...؟
ولاحظت أن الوضع الصحي للسيد الشريف بلقاسم متدهور، فخلال اللقاء حدّثني أنه خضع لعملية جراحية دقيقة أدت إلى فقدان نصف رئته بسبب التدخين المفرط، وكان التنفس لديه يسمع بشدة نظرا لفقدان جزء كبير من جهاز الرئتين، وقد هالني وضعه الصحّي، ومع هذا كان يتحدث بشكل عادي ويوصل الأفكار بشكل متزن وهادئ، وكنت أشاهده في ندوات الثورة الزراعية والندوة الوطنية، لأني كان لي شرف عضوية اللجنة الوطنية للتعريب 74 - 1976 إبان عهد بومدين رغم صغر سني يومئذ، فلاحظت يومذاك أنه كان دائما في منصة قصر الصنوبر بقاعة المؤتمر لقصر الصنوبر بالجانب الأيمن للرئيس الراحل هواري بومدين دائما، لأنه كان مستشاره، ومن المقربين لسي بومدين، ولكن إفراطه في المجون ونشر زوجته السويدية المطلقة لكتاب حول سهراته ولياليه الحمراء، أدّت بالرئيس بومدين إلى تقليص بعض الشيء لنفوذ وظهور السيد الشريف بلقاسم على الساحة السياسية، وكان ذلك في منتصف السبيعينات على ما أذكر.
.
الجزائر بعد توقيف المسار الانتخابي
بالنسبة إلى الأجواء السياسية التي عاشتها الجزائر بعد وقف المسار الانتخابي منذ عام 1991 إلى عام 1995 ونتج عنها انقلاب سياسي بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، وعلى كل حال فإن الجنرال المتقاعد السيد خالد نزار أدلى بشهادته حول مسألة استقالة رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد في كتاباته وفي حوار بتلفزيون النهار، حيث أظهر من خلال الحوار والله أعلم أن استقالة الرئيس الشاذلي كانت بمحض إرادته، ولم تكن بدون أي ضغط مسبق.
ولكن هناك شيء لم يذكره السيد خالد نزار أن الرئيس الشاذلي كان له خلاف مع بعض قادة الجيش بما في ذلك السيد خالد نزار نفسه حول مسألة فوز الإنقاذ بالانتخابات التشرييعة في عام 1991، وترسيم ذلك أن الشاذلي نفسه كان يتوقع فوز جبهة التحرير بالانتخابات التشريعية، وأن تكون هي الأولى، ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان، حيث أصبحت جبهة التحرير في المرتبة الثانية، ما أدى في ذلك إلى مراجعة الحسابات السياسية وأدى إلى تدخل الجيش في الحياة السياسية، حيث ضغط بعض قادة الجيش على الرئيس الشاذلي لكي يتم إلغاء فوز الفيس بالانتخابات، وهذا الوضع لم يقبله الرئيس، فلجأ إلى الاستقالة بسبب ضغوط مفروضة عليه، ولم يكن حرا في هذه القضية أبدا.
وبعد وقف المسار، وظهور المجلس الأعلى للدولة المتكوّن من مدنيين وعسكريين، ولكن كان هناك شخصان أو ثلاثة أشخاص لهم نفوذ كبير على سلطة القرار، فقد برزت مراكز قوى قد وجدت في الأزمة فرصة سانحة للتمركز أكثر، وكانت تطمح للحصول على امتيازات سياسية، وهذا ما تم فعلا لكي تفوز بمزيد من النفوذ في السلطة والإفلات من أدنى حد من القواعد ومن الرقابة، وهكذا أصبحت مصالح مراكز القوى المتمثلة في Clan تهيمن على الرؤى والأفعال، مما أدى إلى انسداد وفراغ سياسي منذ وقف المسار الانتخابي في 1992 حتى عام 1995، وهو انغلاق سياسي عام، وخلال هذه المدة جرت محاولات عديدة من أجل اقتراح تصوّر وبديل سياسي واقتراحات بناءة، ولكن كانت هذه الأفكار البديلة يجري التراجع عنها بعد حين، ويعود السبب هو الخوف من ديناميكية جديدة تضرب التوازن الذي كان قائما عند مراكز القوى الناشئة من الانقلاب السياسي ضد الشرعية الدستورية الناتجة عن فوز الفيس في الانتخابات التشريعية في عام 1991.
وهكذا تم رفض كل ديناميكية سوء أكان مصدرها داخل النظا، أو من السلطة الفعلية، فما بالك إن كانت خارج النظام. وفيما يتعلق بدور الجيش الشعبي، لا أعتقد أن داخل هذه المؤسسة العسكرية القوية التي قوى فعاليتها الرئيس الراحل هواري بومدين للدفاع عن الوحدة الترابية، لاسيما أن الواقع الجيوسياسي يحتم أن يكون للجزائر جيش قوي لإفشال كل من يتربص بوحدة الأمة والوطن.
وفي الحقيقة، أن هناك أخطاء ارتكبت من الناحية السياسية أولا، وهو إدخال الجيش في أزمة سياسية كان من الواجب ألا يتحمل مدة أربع سنوات وزر هذه الأزمة منذ البداية في 1991 إلى عام 1995 مع ما يصحبها من متاعب الإنزلاق وافرازات المشكلة السياسية، وتحمل كل ذلك على أساس حماية الوطن والدولة الجزائرية، وهي مسؤولية لا مفر من تحملها، لأنه وقع فراغ دستوري ناتج عن استقالة رئيس الجمهورية. وكما هو معلوم في التاريخ السياسي للدول الحديثة أن الدول والأمم تنشئ الجيوش لمجابهة الأوضاع المحرجة والصعبة التي تمسّ باستقرار الشعوب، فتظهر أهمية وضرورة وجود جيش وطني لمجابهة أي عدوان محتمل وللضرورة أحكام كما يقال.
ففي هذا المقام، يلجأ أصحاب القرار إلى المؤسسة العسكرية لضبط الأمور ووضع قرارات مناسبة لكي تحمي الشرعية الدستورية، وتجنب البلاد من انزلاقات خطيرة، وهذا ما تم فعلا في الجزائر، حيث أن بعد استقالة الشاذلي -وكان من الواجب ألا يستقيل- هو أن الجيش الجزائري تدخل لإصلاح خلل ما وقع داخل السلطة الجزائرية، ولكن المشكل المطروح في الجزائر، والتي حاول والدي الشيخ الحسين إصلاح ذات البين في الأزمة السياسية الجزائرية بعد وقف المسار الانتخابي في 1992، وانتصار الفيس في هذه الانتخابات التشريعية فكان ينوي جمع الشمل ورأب الصدع.
أجل، إن افرازات الوضع المتأزم في تلك الفترة سالف ذكرها (91 ـ 1995) جعلت الجيش الجزائري يجابه خصما داخليا مما أدى إلى ظهور على السطح مشاكل عديدة مختلفة الأبعاد يهدد انسجامها ويمس بالغاية المنشودة والعزيزة على الجيشوالشعب ألا وهي حماية الوطن من عدوّ خارجي المتربص بنا على الحدود الجنوبية أو في أنحاء أخرى من الوطن أو في مناطق أخرى في العالم، وهذا القلق المتعلق بإدخال الجيش في مسألة سياسية وطنية.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.