مذكرات الشاذلي بن جديد تثير زوبعة


مذكرات الشاذلي بن جديد تثير زوبعة

 الحسن الثاني ضغط على الحكومة المؤقتة لمنعها من إجراء استفتاء حول تقرير المصير في منطقة تندوف''أحمد بن بلة هو من روّج لفكرة انتمائي للجيش الفرنسي''
حمل الجزء الأول من مذكرات الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد التي توزع في المكتبات، ابتداء من يوم 28 أكتوبر الجاري، والصادرة بعنوان ''ملامح حياة''، حقائق كثيرة حول مساره النضالي ومشاركته في حرب التحرير، بدأت سنة 1929 وانتهت سنة 1979، وبإمكان القارئ الإطلاع على معلومات كثيرة متعلقة بظروف الثورة بالقاعدة الشرقية، ومحاكمة محمد لعموري وإنشاء هيئة أركان الجيش، ودور العقيد هواري بومدين، وانقلاب 19 جوان 1965، وغيرها من القضايا.


يبدأ الشاذلي بن جديد مذكراته، بالحديث عن طفولته. وكتب أنه ولد سنة 1929 بقرية ''السبعة''، في عائلة تنتمي لعرش ''الجدايدية''، التي قدمت من شبه الجزيرة العربية (اليمن تحديدا). وهو من عائلة الشرفاء، تملك أراضي خصبة، وتمردت على السلطة العثمانية ثم الفرنسية. ويذكر الشاذلي في سياق حديثه عن التحاقه بجيش التحرير، أنه كان يقصد ''السبعة'' مجاهدين يقومون بعملية التوعية والتحسيس لجلب أبناء المنطقة للالتحاق بجيش التحرير الوطني. وكان الشاذلي ووالده على اتصال بهذه المجموعة بعد أن أعطى عمارة بوقلاز تعليمات للعيساني شويشي للاتصال بوالده وبالشاذلي شخصيا، واستشارتهما. وكان والده يخفي سلاحا منذ سنة 1942، فتم تسليمه للمجاهدين لما قامت الثورة. ويذكر بن جديد أن الإدارة الفرنسية وضعته في تلك المرحلة ضمن قائمة المشوشين، فاتهم بمحاولة اغتيال شخص من المنطقة، وهو ما دفعه إلى الالتحاق بالمجاهدين سنة 1955، وعمره ستة وعشرون عاما، فعيّن مسؤولا بمنطقة سوق أهراس، التي سميت فيما بعد بالقاعدة الشرقية. وينفي الشاذلي في الصفحات الأولى من مذكراته، ما أشيع عنه بخصوص التحاقه ''المزعوم'' بالجيش الفرنسي، وكتب ما يلي: ''هكذا لم أنتَمِ في يوم من الأيام إلى الجيش الفرنسي، ولم أؤد الخدمة العسكرية في صفوفه، ولم أشارك في محاربة الشعب الفيتنامي في الهند الصينية، كما أشيع عني لأسباب سياسية، وغرضه النيل من سمعتي ومحاولة إيهام الناس بأنني التحقت بالثورة في وقت متأخر''. وحسب الشاذلي، فإن الرئيس الأسبق أحمد بن بلة هو من روّج لهذه المعلومات الخاطئة ''لأهداف معروفة'' رفض الخوض فيها. وذكر أن هذه المعلومات التي نقلها محمد حربي أولا، انتقلت إلى عدة مؤرخين فرنسيين وجزائريين منهم بنجامين ستورا، موضحا أن حربي نقلها عن جيلبير مينيي الذي صرح أنه استقاها من الأرشيف التاريخي للجيش البري الفرنسي (شات)، وهذا خطأ تاريخي.
 مجاهدو القاعدة الشرقية وُضعوا في عداد ''المشوشين''اعتبر الشاذلي بن جديد، الذي عين آنذاك في منصب نائب مسؤول منطقة بناحية سوق أهراس، مؤتمر الصومام بمثابة تحوّل هام في مسار الثورة، فقد أمدها، حسبه، بالأرضية الإيديولوجية التي كانت تفتقدها، معتبرا بيان أول نوفمبر مجرد إعلان عن مبادئ عامة، وليس برنامجا واضح الأهداف. وأكد أن كل منطقة كانت تقود الثورة بوسائلها الخاصة في ظل انعدام الاتصال بين مختلف المناطق. وكشف أن عمارة بوقلاز تعذر عليه الانتقال للقاء المسؤولين بسبب ''الأوضاع الخطيرة التي كانت سائدة في منطقة سوق أهراس والاضطرابات التي كانت تزعزع صفوف المجاهدين''.وأضاف أن بوقلاز اكتشف وجود محاولة لاغتياله، وخطط لها نائبه بإيعاز من خصومه. لذلك فضل، وفق ما جاء في المذكرات، إرسال وفد إلى الصومام وطلب من المشاركين عدم اتخاذ أي قرارات بخصوص المنطقة التي غرقت في المشاكل بسبب النزاعات العشائرية والعصبية والفوضى. وذكر بن جديد أن المؤتمر اتخذ عدة قرارات خاصة بالمنطقة دون استشارة قادتها، فاحتج عمارة بوقلاز على عدم تحول منطقة سوق أهراس إلى ولاية، واعترض على الطريقة التي تم بها المؤتمر، وكتب ما يلي: ''بعد اعتراضنا على الطريقة التي تم بها عقد مؤتمر الصومام، وليس على قراراته، اتهمنا بالتشويش، أي أننا أصبحنا في نظر القيادة المنبثقة عن مؤتمر الصومام خارجين عن القانون... ورفضت لجنة التنسيق والتنفيذ مدّنا بأي مساعدات مادية أو عسكرية بعد الطلب الذي تقدم به عمارة بوقلاز''.شعر الشاذلي ورفاقه بالتهميش والإقصاء، ومرت منطقة سوق أهراس بظروف عصيبة، وجاء في المذكرات: ''في ظل هذه الأوضاع أرسلت لجنة التنسيق والتنفيذ في سبتمبر 1956 عمر أوعمران إلى تونس في محاولة لإصلاح الأوضاع المتردية وإبعاد محساس وأنصاره الذين كانوا لا يزالون رافضين لقرارات مؤتمر الصومام، ووقعت مواجهات بين الطرفين، وتدخل بورقيبة شخصيا لفض الخلافات، وانتهت الأمور بمغادرة محساس تونس إلى ألمانيا في ظروف أقل ما يقال عنها إنها مأساوية''. ويضيف بن جديد أن لقاء جرى بين قادة منطقة سوق أهراس وبين العقيد أوعمران، فتم الاتفاق على إنشاء القاعدة الشرقية في نهاية سنة .1956توقف الرئيس بن جديد في مذكراته مطولا عند ''مؤامرة العقداء''، أو ''مؤامرة لعموري''، ورفض هذه التسمية، واعتبرها خطأ، ودحض تسمية المؤامرة، لوجود توظيفات سياسية. ونفى أن يكون وراءها تنازع على السلطة أو صراع عصبة ضد عصبة أخرى ''وإنما الأمر كان متعلقا بخلافات عميقة حول أساليب قيادة الكفاح المسلح وطرق تسيير الثورة سياسيا، واختيار القادة، أي مصير الثورة بصفة عامة. وكان محمد لعموري ومحمد عواشرية وأحمد نواورة والرائد مصطفى لكحل وأغلب ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية مقتنعين أن الثورة انحرفت عن مسارها الأصلي. وأنه يجب التحرك لإصلاح الأوضاع قبل انفلاتها''. وهكذا تبلورت، حسب الشاذلي، فكرة ''استعمال العنف ضد القيادة الثلاثية لحملها على مراجعة القرارات التي اتخذتها في حق بوقلاز ولعموري بعد حل لجنة العمليات العسكرية (كوم).وكشف الشاذلي أن بوقلاز هو من دفع محمد لعموري إلى رفض قرارات الحكومة المؤقتة، غير أنه فضل الطرق السلمية، بينما فضل لعموري الحلول العنيفة، فشرع في العمل على الإطاحة بالعسكريين في الحكومة المؤقتة مع أحمد نواورة ومحمد الطاهر عواشرية، قائد القاعدة الشرقية بعد بوقلاز. ويضيف أن عواشرية انتقد تصرفات الحكومة المؤقتة وانتظر وصول العقيد عميروش إلى تونس لعقد اجتماع معه، مطالبا بتقديم توضيحات حول ظروف اغتيال عبان رمضان، وطرح فكرة استبدال فرحات عباس بلامين دباغين. ولما تم الكشف عن خيوط العملية كانت الضربة قاسية بالنسبة لجماعة القاعدة الشرقية ''فبعد أيام شرع الحرس الوطني التونسي في نقل الجنود الجزائريين على الحدود لمحاصرتنا وقطع التموين عنا. ووجدنا أنفسنا بين مطرقة جيش الحدود بقيادة علي منجلي وسندان الجيش الفرنسي: إما أن ندخل في حرب الإخوة الأشقاء، وإما أن نسلم أنفسنا للعدو. وكلا الخيارين مر. وفضلنا الحل السلمي في الأطر النظامية''. ويذكر الشاذلي أن الأوضاع تحسنت بعد لقاء كريم بلقاسم ولخضر بن طوبال، اللذين أقنعا ''المنشقين'' بالعودة إلى الشرعية، لكن محاولات عدم إعدام لعموري وجماعته لم تؤد إلى أي نتيجة.
خطة الرائد إيدير وكريم بلقاسم أضرت بالثورة
توقف الشاذلي في مذكراته عند خطة الرائد إيدير، رئيس ديوان كريم بلقاسم، والقاضية بالتخلي عن فكرة حرب العصابات والاعتماد على تقنيات الحرب الحديثة، وقال إنها أدت إلى إنهاك قوى المجاهدين، ووقوع حالات عديدة من التمرد والعصيان في صفوف جيش التحرير الوطني، مثل تمرد وحدات الولاية الأولى في جبل الشعامبي، وعصيان حمى لولو، والاستسلام المخزي لعلي حمبلي. وكتب بخصوص هذه الظاهرة: ''كانت في الواقع تعبّر عن نزوة طائشة للرائد إيدير الذي استغل إخلاص محمدي السعيد، وثقة كريم بلقاسم. لكن هذا الأخير اضطر إلى التراجع عنها نظرا إلى نتائجها الكارثية تحت ضغط بوصوف وبن طوبال''. واسترسل الشاذلي في تناول نتائج هذه الخطة بالتفصيل، وتوقف عند استسلام حمبلي، الضابط في المنطقة الخامسة للولاية الأولى، وتمرد حمى لولو، والنهاية المأسوية لكومندوس حيدوش.كريم بلقاسم هو من اعتمد على الضباط الفارين من الجيش الفرنسي وليس بومدين ولدى تناوله ظروف إنشاء هيئة الأركان العامة للجيش، اعتبر الشاذلي أن العقيد هواري بومدين كان بمثابة القائد الذي تمكن من تحسين أوضاع جيش الحدود بسبب الفوضى التي برزت بسبب عدم قدرة محمدي السعيد على التسيير. ويذكر الشاذلي أنه التقى ببومدين في النصف الأول من سنة 1960، فلاحظ الفرق الشاسع بينه وبين محمدي السعيد، فاقتنع أنه رجل مخلص ووطني حتى النخاع، وصاحب نظرة بعيدة، وكتب ما يلي: ''واتفقنا أنا وعبد الرحمان بن سالم بعد العودة أن نمنح له (بومدين) فرصة تطبيق خطته للخروج من الأزمة''. وبحسب الشاذلي، فإن بومدين نجح أين فشل محمدي السعيد، فتمكن من القضاء على النعرات الإقليمية والقبلية التي كانت سائدة في صفوف جيش الحدود، فقضى على عقلية أسياد الحرب التي نتجت عنها تمردات خطيرة. وبخصوص علاقة بومدين بالضباط الفارين من الجيش الفرنسي، كتب الشاذلي ما يلي: ''فمن التهم الموجهة إلى بومدين أنه أعاد إدماج الفارين من الجيش الفرنسي، وعيّنهم في مناصب حساسة، ودعم ارتقاءهم وترقياتهم في مناصب إستراتيجية أثناء الثورة وبعدها. وهذه التهمة بقدر ما تنطوي على حقيقة بقدر ما تخفي مغالطة، ذلك أن بومدين حين استلم قيادة الأركان وجد هؤلاء الضباط يحتلون مناصب مسؤولية في وزارة القوات المسلحة وعلى رأس فيالق وفي مدارس التكوين''. وورث بومدين عن كريم بلقاسم، حسب الشاذلي، ''وضعية متأزمة، من مظاهرها تفكك الوحدات القتالية وانقطاع الثقة بين القيادة والجنود وغياب إستراتيجية لاستعادة المبادرة في قيادة الحرب''. وتكمن عبقرية بومدين في كونه وجد حلا وسطا بين تصور الرائد إيدير (الحرب الحديثة) وتصور المجاهدين (حرب العصابات) فاختار حل المزاوجة بينهما. وبخصوص الخلافات التي وقعت بين الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان والتي انفجرت في جوان 1961 إثر إسقاط طائرة استطلاع فرنسية وأسر طيارها فريديرك غايار، وبروز خلافات بين الطرفين حول مصير الطيار الفرنسي، حيث رفض بومدين تسليمه للحكومة المؤقتة (التي أرادت تسليمه للحكومة التونسية) لكنه اضطر للعدول عن قراره، فقدمت هيئة الأركان استقالتها للحكومة المؤقتة، فتوسعت دائرة استنكار الضباط تجاه الحكومة، وبرزت عريضة إدانة ضد حكومة بن خدة، وكان الشاذلي من أول الموقعين. واعتبر العريضة بمثابة تعبير عن طرح سياسي يطالب بالعودة إلى المبادئ الثورية من أجل مواصلة الكفاح المسلح. 
أنصار صالح بوبنيدر وضعوني في السجن وعاملوني بقسوة
انتقل الشاذلي بن جديد إلى الحديث عن الخلافات التي برزت بين قيادة الأركان، وبعض ولايات الداخل، ومنها الولاية الثانية التي رفضت سلطة قيادة الأركان، وكان هو شاهدا عليها بعد أن كلفته قيادة الأركان بالتنقل إلى الداخل لإقناع قادتها بتجنب المواجهة وتفادي سفك الدماء، ويروي بن جديد كيف اتفق مع صالح بوبنيدر على ضرورة توحيد الصفوف، وكيف وقع في الأسر بعد عودة قادة الولاية الثانية من اجتماع طرابلس غير راضين تماما. وجاء في المذكرات ''نزعوا مني سلاحي، وصادروا وثائقي... وعاملوني معاملة لا يعامل بها حتى العدو. وبعد أن علمت قيادة الأركان باعتقالي أرسلت محمد عطايلية، ومن بعده الهاشمي هجرس للاطمئنان على مصيري، فاعتقلا أيضا في سهل عنابة''. وأضاف عن ظروف اعتقاله: ''كان إبراهيم شيبوط يقول عني ''هذاك شاب راسو من الانقلابات''، وطلب من الحراس تشديد الحراسة علي''. وكتب لاحقا: ''لقد أحسست أن بوبنيدر ندم على اعتقالي وسجني''. وكشف الشاذلي أنه لم يُكن أي حقد لا لصالح بوبنيدر، ولا لإبراهيم شيبوط الذي عينه وزيرا للمجاهدين في حكومة غزالي.
وتمتد المذكرات إلى غاية سنة 1979، ويروي فيها بن جديد ظروف تعيينه على رأس الناحية العسكرية الثانية بين 1964 و1979 وهو العام الذي شهد رحيل الرئيس بومدين، واختيار الشاذلي بن جديد ليكون مرشحا لمنصب رئيس الجمهورية. كما يحتوي الجزء الأول من المذكرات على فصل خاص بالعلاقة مع المغرب. وتحدث بن جديد عن ضغوط الحسن الثاني على الحكومة المؤقتة لمنعها من إجراء استفتاء حول تقرير المصير في منطقة تندوف التي كان يدعي مغربيتها، وقام بنشر قواته على طول الحدود، بعد أن رفض التخلي عن أطماعه الاستعمارية.
الشاذلي بن جديد يرد على الطاهر الزبيري
''صارحتك بأنني لن أقف معك في أي عمل  عسكري ضد بومدين''
تفاصيل ساخنة ومثيرة تكشف لأول مرة، تلك التي نشرها الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في مذكراته التي تحصلت ''الخبر'' على نسخة منها، إذ يتهم الشاذلي صراحة محمد الصالح يحياوي (قائد الناحية العسكرية الثانية) بأنه سعى لتحريضه رفقة بعض من كبار الضباط على المشاركة في انقلاب عسكري كان يحضره العقيد الطاهر الزبيري، قائد الأركان ضد بومدين في 1967.
يلمح الشاذلي إلى أن جماعة الزبيري، وعلى رأسهم زرداني، دفعوا الرائد سعيد عبيد إلى الانتحار بعدما شتموه ووصفوه ''بالجبان''، وأنه ''ليس شاوي''، بعد أن قرر اتخاذ موقف الحياد من الأزمة التي انفجرت بين بومدين والزبيري.
أخطر ما قاله العقيد الشاذلي في كتابه أن الجزائر كانت مهددة بالدخول في حرب أهلية في 1967، ليس فقط بسبب أزمة العقيد الطاهر الزبيري، بل أيضا بسبب انتحار أو اغتيال الرائد السعيد عبيد (مولود في سدراتة بسوق أهراس) في ذروة الأزمة، واعتقدت قوات الناحية العسكرية الأولى (البليدة) أن كومندوس أو سليمان هوفمان (أحد الضباط الفارين من الجيش الفرنسي) قتل قائدهم، فأغلقوا أبواب ثكناتهم وأعلنوا عدم اعترافهم بنظام بومدين.
يحياوي وعبيد وبن سالم وعباس كانوا يخططون للانقلاب على بومدين
عندما دعا عبد الرحمان بن سالم (قائد القطاع العسكري للعاصمة) قادة النواحي العسكرية لتناول الغداء في بيته في بوزريعة، يقول الشاذلي ''كنا خمسة: عبد الرحمان بن سالم، العقيد عباس (قائد الأكاديمية العسكرية لشرشال)، سعيد عبيد، يحياوي (قائد الناحية العسكرية الثالثة ـ بشار)، وأنا (قائد الناحية العسكرية الثانية ـ وهران). وتابعوا جيدا ماذا قال الشاذلي عن الضباط الأربعة بعد ذلك ''لم أدرك في تلك اللحظة أن هناك مؤامرة تحاك في الخفاء وأنني طرف فيها من حيث لا أعلم. انتقلنا إلى الصالون لتناول القهوة ولاحظت أن كل الجماعة صامتة ولم يفاتحني أحد بما كان يدور في أذهانهم، لاحظت أنهم غمزوا السعيد عبيد لأنهم كانوا يعرفون الصداقة المتينة التي تربطني به وأرادوا استغلال ذلك، ثم طلبوا منه أن يكلمني باسمهم. نهض السعيد عبيد وقال بنبرة أحسست فيها نوعا من اللوم والعتاب والاستنجاد في الوقت نفسه:
ـ هل يعجبك الوضع يا سي الشاذلي...؟ (...)
ـ ... هناك مشاكل كثيرة ولكني أعتقد أنها يمكن أن تحل بالحوار وفي أطر المؤسسات القائمة.
ـ رد: حاولنا حلها في الأطر والمؤسسات القائمة ولم نصل إلى نتيجة.
وأضاف السعيد عبيد: ''نحن مطالبون الآن باتخاذ قرار حاسم''. ويعلق الشاذلي على ذلك ''حينئذ فهمت أن الأمر واضح وأنهم يخططون لمحاولة الانقلاب على بومدين''. وتابع ''حاولوا إقناعي بالانضمام إليهم لكنهم فشلوا وافترقنا''.
وكلام الشاذلي يؤكد ما نشره العقيد الطاهر الزبيري بأن الضباط الأربعة (السعيد عبيد، يحياوي، بن سالم، العقيد عباس)، كانوا يدعمونه في أزمته ضد بومدين قبل أن يتحولوا إلى الحياد في ظروف لازالت لم ينفض عنها كامل الغبار، ورغم أن محمد الصالح يحياوي نفى في رده على مذكرات العقيد الزبيري أن يكون دعم هذا الأخير في أزمته ضد بومدين، وقال بالحرف الواحد: ''لم يكن أيّ منا، نحن الأربعة، يفكر في عمل عسكري (ضد بومدين)''، إلا أن شهادة الشاذلي وقبلها الحوار الذي أجرته ''الخبر'' مع مهدي الشريف، الأمين العام لهيئة الأركان، يؤكدان أن يحياوي كان طرفا رئيسيا في التحضير للانقلاب على بومدين في 14 ديسمبر 1967 إلى أن يثبت العكس. 
وفي هذا الخصوص يوضح الشاذلي أنه عاد رفقة يحياوي إلى وهران ''وطلب مني أن أضع تحت تصرفه طائرة هيليكوبتر ليلتحق بالناحية العسكرية الثالثة لكني رفضت، وتحججت بأن الثلج لا يسمح بالطيران، وكنت في الواقع أعرف أنه يريد أن يصل بسرعة إلى الناحية الثالثة لتحييدي ومنعي من التدخل ضد القوات الموالية للطاهر الزبيري''.
  الشاذلي يرد على الزبيري
من الأمور التي أغضبت الشاذلي بن جديد عند صدور مذكرات العقيد الزبيري جملة قال فيها الزبيري إن الشاذلي طلب من قواته التي دفع بها إلى معركة العفرون أن تقف مع المنتصر، سواء كان الطاهر الزبيري أو بومدين، ولكن الرد لم يأت من الشاذلي بل جاء من أحد المجاهدين الذي قال الزبيري إنه نقل إليه هذا الخبر.
ولكن الشاذلي لم يسرّها في نفسه، بل أوضح في مذكراته التي صدرت بعد وفاته ''ذهبت إلى بيت الطاهر الزبيري في الأبيار وقلت له: كنت مع الجماعة وأطلعوني على نواياهم وأريد أن تعرف أنت موقفي. ربما سيأتون إليك ويقدمون لك معلومات خاطئة... سأقف ضد كل من يستعمل العنف، وأن هناك مجلسا للثورة يمكن أن تحل داخله كل المشاكل والخلافات''، وأضاف ''لم يعلق الزبيري على كلامي، لكني فهمت من صمته أنه مصمم على تنفيذ خطته، وفي تلك اللحظة تملكني شعور بالخوف، أي مشروع سيطرحه الزبيري، وأي رؤية يحملها لو افترضنا أنه سينجح في انقلابه على بومدين''.
ويؤكد الشاذلي أنه كان له دور كبير في هزيمة العقيد الطاهر الزبيري في معركة العفرون في 14 ديسمبر 1967، بدءا برفضه الوقوف إلى جانبه، وأنه كان يطلع بومدين بتفاصيل استعدادات قوات الزبيري، خاصة فيلق المدرعات بالأصنام (الشلف حاليا)، وأرسل فيلقا احتل ثكنة إسناد الانقلابيين في الأصنام، ثم أرسل فصيلين تمركزا على التلال وقصفا الدبابات بقذائف ''البازوكا''، وأنهوا المعركة في أقل من ربع ساعة بعد قدوم الطائرات من ورفلة.
ويذكر الشاذلي بأنه عندما أصبح رئيسا في 1979 سمح للعقيد الزبيري بالدخول إلى الجزائر بشرط أن يمكث في بيته وألا يمارس السياسة.
السعيد عبيد مات منتحرا 
يذكر الرئيس الشاذلي بن جديد في كتابه أن السعيد عبيد مات منتحرا ولم يقتله ضباط موالون لبومدين، ويضيف أنه حقق في الأمر وتأكد بأن قائد الناحية العسكرية انتحر، حيث قالت له زوجة عبيد ''قبل أن ينتحر أحسست أنه يودعني بالتلفون، قال لي إنه مسافر إلى مكان بعيد والظروف لا تسمح له أن يتصل بي، وقال لي حين يكبر الولد أعطيه قميصي وشارتي''.. ورد عليها عندما ذكرته بأنه أينما ذهب يتصل بها هاتفيا ''إلى حيث أنا ذاهب لا يوجد تلفون''. 
القائد الأسبق لأركان الجيش، العقيد الطاهر الزبيري، لـ''الخبر'':
''الشاذلي كان يخشى وصول ضباط فرنسا إلى الحكم''  
  كنت أفكر في علي منجلي لو اضطررنا إلى تنحية بومدين
قال العقيد الطاهر الزبيري، قائد أركان القوات المسلحة الأسبق، إنه كان يعتقد أن الرائد الشاذلي بن جديد، قائد الناحية العسكرية الثانية (وهران) سيتضامن معه خلال أزمته مع بومدين في ديسمبر 7691، بحكم أن الشاذلي كان يقف في صف المجاهدين في صراعهم مع الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، لأنه كان يخشى وصولهم إلى السلطة، وكشف لأول مرة أنه كان يفكر في وضع علي منجلي بديلا عن بومدين كقائد لمجلس الثورة إذا تحتم الأمر، لأن هذا الأخير كان يمقت ما يعرف بـ''ضباط فرنسا''.
الجزائر: حاوره مصطفى دالع
الرئيس السابق الشاذلي بن جديد أشار في مذكراته إلى أنه زارك في بيتك خلال أزمتك مع بومدين، وأكد لك أنه ''سيقف ضد كل من يستعمل العنف''، فهل تؤكد أو تنفي هذه الحادثة؟
 أولا من الصعب الرد على شخص ميت، كما أني لا أريد نبش القبور، ووددت لو أن الشاذلي بن جديد (رحمه الله) رد علي خلال صدور الجزء الثاني من مذكراتي، في 2011، وقد كان له الوقت الكافي للرد علي، ومع ذلك أشير إلى أن الشاذلي بن جديد زارني في بيتي على غرار الكثير من المسؤولين والضباط الذين ترددوا على بيتي في تلك الفترة، ولكنه لم يقل لي هذا الكلام، بل لم تكن له الجرأة حينها ليقول أمامي مثل هذا الكلام.
ما هو الموقف الذي اتخذه الشاذلي بن جديد من الأزمة التي نشبت بينك وبين بومدين؟
  الشاذلي كان متضامنا معي ولكنه كان يهاب بومدين، كان متحفظا ويراقب الوضع من بعيد، فقد كان الناس يحترمونه لهدوئه وكثرة صمته، وكان يجتنب دائما الدخول في جدالات أو صراعات مهما كانت.
لماذا اعتقدت أن الشاذلي كان متضامنا معك، في حين يؤكد أنه كان ضد أي عمل عسكري تقوم به؟
كنت أعتقد ذلك، لأن الشاذلي كان يعرف مكانتي خلال الثورة باعتباري من أوائل المفجرين لها في نوفمبر 1954، كما أنني كنت رائدا في القاعدة الشرقية، في الوقت الذي كان ملازما أول في المنطقة الأولى للقاعدة الشرقية، فضلا على أن الشاذلي كان مجاهدا شعبيا وكان متخوفا مثلنا أن يصل ''ضباط فرنسا'' إلى الحكم، وحينها يصبح بإمكانهم تنحية ووضع من يشاؤون في المناصب، والشاذلي كان يميل إلى صف المجاهدين الذين كنت أمثلهم في الجيش، لأنني كنت جسورا في المعارك، في حين كان ضباط فرنسا يتفادون الخطر.
هناك حديث انتشر بين العوام يقول إن الشاذلي من ضباط فرنسا، فهل تنفيه أو تؤكده؟
 لم أعتبر في يوم من الأيام المرحوم الشاذلي بن جديد كأحد ضباط فرنسا، وقد التقيته أول مرة في باجة بتونس في 1956، خلال اجتماع مع أوعمران وبوقلاز، قائد منطقة سوق اهراس، قبل أن تتحول إلى قاعدة شرقية، وجاء الشاذلي مع مسؤوله في الجيش، شويشي العيساني، الذي أصبح قائد المنطقة الأولى في القاعدة الشرقية التي كان الشاذلي عضوا فيها.
الشاذلي يؤكد أنه لعب الدور الرئيسي في هزيمتك في العفرون، وأن قواته أنهت المعركة في أقل من ربع ساعة بمساعدة الطيران؟
 (يضحك...) هذه ليست معركة تحسم في ربع ساعة، ولكن بومدين استعان بالضباط الفارين من الجيش الفرنسي من شابو وزرفيني وهوفمان، وخاصة أحمد بن شريف، قائد الدرك الوطني، كما أن سيطرة فيلق الشاذلي على ثكنة الشلف جاءت بعد خروج فيلق المدرعات منها، وبالتالي فالأمر تحصيل حاصل.
الشاذلي ذكر أن كل الضباط الذين شاركوا في محاولة الانقلاب العسكري التي قمت بها في 14 ديسمبر 1967 ينتمون إلى نفس المنطقة، وبالتالي أخذت طابعا جهويا وقبليا، فما مدى صحة ذلك؟
 أولا حركة 14 ديسمبر لم تكن انقلابا عسكريا، وأكدت ذلك في مذكراتي، ثانيا الضباط والجنود الذين شاركوا في هذه الحركة كانوا من كل جهات الوطن، وإن كان هناك فرد أو اثنان من أقاربي فهذا لا يعني أنها ذات طابع جهوي، ولكن بومدين ضخم الأمور ومارس الدعاية وروّج لها على أنها ''جهوية''، والحقيقة أن ما قمنا به هو تغيير وتصحيح، الشيء الذي بسببه قمنا بتنحية بن بلة من الحكم، وكمجاهدين من حقنا أن ندافع عن الثورة، لأننا كنا نخشى الحكم الفردي، وكإطارات في الجيش لم نكن نتصور أن بومدين سينقلب علينا بعد تنحية بن بله، واستعمل الضباط الفارين من الجيش الفرنسي وهم أيضا استعملوه.     
بن جديد تساءل في مذكراته عن أي مشروع دولة تحمله لو هزمت بومدين، فكيف تجيب عن ذلك؟ 
لم أكن في يوم من الأيام أفكر أن أصبح رئيس جمهورية، وحتى لو اضطررنا إلى تنحية بومدين ووقع التغيير، فكنت أفكر في علي منجلي (نائب قائد الأركان خلال الثورة) بديلا عنه، لأنه كان يمقت الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، رغم أنني لم أكن أرغب في تنحية بومدين وإنما سعينا لتقليص صلاحياته، ولو بنزع مسؤولية من مسؤولياته الكثيرة، سواء وزارة الدفاع أو رئاسة الحكومة.
نور الدين آيت حمودة يعتبر هذه الشكوك ''حقيقة موثقة''
مذكرات الشاذلي: ''عميروش والحواس استشهدا في ظروف غامضة'' 
 شكك الرئيس السابق الراحل الشاذلي بن جديد، عبر الجزء الأول من مذكراته، في ظروف استشهاد العقيدين عميروش وسي الحواس، قائلا في فقرة لا تتجاوز 21 سطرا: ''... وفي سنة 95، في طريقه إلى تونس لتوضيح الأوضاع مع الحكومة المؤقتة، استشهد هو والعقيد الحواس في جبل ثامر في ظروف غامضة''.  ولم يوضح الشاذلي بن جديد ماذا يقصد بالظروف الغامضة، وما لا يعلمه عن هذه القضية التي أسالت الكثير من الحبر، لكن تشكيك مجاهد ورئيس جمهورية سابق في ظروف اغتيال قائدين من قادة الثورة التحريرية، كاف لتأكيد فرضية أن مقتل عميروش وسي الحواس لم يكن بالصدفة كما تنقله الرواية الرسمية''. 
''الخبر'' اتصلت بابن الشهيد عميروش، للتعليق على مذكرات الشاذلي، فكان رده: ''الشكوك التي انتابت الشاذلي رحمه الله بخصوص استشهاد العقيدين عميروش والحواس، حقيقة مؤكدة بالنسبة لي وبالوثيقة. العقيد بوصوف مسؤول الـ''المالغ'' هو من منح عميروش للفرنسيين، بينما استشهد سي الحواس بالصدفة في نفس المعركة''. 
كما ذكر الشاذلي في مذكراته أن الأقدار شاءت أن يكون ''الإنسان، بعد أن أصبحت رئيسا للجمهورية، الذي اكتشف جثتي عميروش والحواس موجودتين في قبو بالقيادة العامة للدرك الوطني. فأمرت دون تردد باستخراجهما من هناك وإعادة دفنهما في مربع الشهداء بالعالية''.  وعن هذه القضية، يقول نور الدين آيت حمودة، (ابن عميروش) ''تمنيت لو كشف الرئيس الشاذلي رحمه الله أسماء المسؤولين عن إخفاء جثتي عميروش والحواس في قبو بقيادة الدرك الوطني، لكن الظاهر أن الشاذلي حتى في آخر أيامه لم يكن مستعدا لقول كل الحقيقة، وهو ليس الوحيد الذي تهرب من الحقيقة''. ليخلص إلى أن ''جيل المجاهدين حرروا البلاد حقا لكنهم لم يحرروا ضمائرهم''. 
وفي الفقرة التي خصصها الشاذلي للعقيد عميروش، تحدث عن لقائه به في منطقة ''سوق الأربعاء'' سنة 65، حيث كان عميروش عائدا من تونس. وقال عنه ''كان قد دخل تونس في نوفمبر 65 بعد إخفاقه في إصلاح الأوضاع المتردية في الأوراس. وقد رسخ في ذاكرتي كما هو في صوره المعروفة: طويل القامة، ذو بنية قوية، ونظرة ثاقبة بقشابيته المزركشة وشاشه. كان عميروش شديد الحرص على وحدة صفوف المجاهدين، وقد قام بعدة وساطات، سواء في الولاية الأولى أو في تونس''.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.