ملف الخونة و الحركات المناوئة لحرب التحرير - الخلقة الخامسة -

"الكابران" الذي قلّد نفسه رتبة جنرال

فرنسا عرضت على بلونيس حكما ذاتيا في الصحراء

سي محمد بلونيس (يمينا) قائد الجيش الوطني للشعب الجزائري
           سي محمد بلونيس (يمينا) قائد الجيش الوطني للشعب الجزائري

 مرتزقٌ إيطالي زوَّد بلونيس بشحنة أسلحة بقيمة 15 مليون فرنك

 كريم بلقاسم كان يختبئ في بيت بلونيس وظل وفيًّا له قبل أن يلتحق بالثورة ويعاديه

لم يكن سهلا النبش في تاريخ الثورة وملف الخونة وإن كنا بهذه الشهادات لا نشكك في مصداقية من التحقوا بالثورة فيما بعد ودافعوا عن الوحدة الوطنية وإخراج فرنسا، إلا أن البعض يتهم الجنرال محمد بلونيس، المولود ببرج منايل، بالخيانة العظمى على غرار كريم بلقاسم الذي وصفه بالخائن ثم هجره بعد أن كان صديقه الحميم في بداية الثورة ونقصد هنا عام 1955.
يقول المجاهد الكبير أحمد قادة من باتنة في شهادته لـ"الشروق" والوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة من مجموعة الـ 05، أو ما يعرف بـ"جماعة الاعتصام بالجبل" سنة 1947، إن الثورة الجزائرية عظيمة وقام بها عظماء لكن لم تجد رجالا يكتبون التاريخ فغالبية المجاهدين، حسب قوله، انشغلوا بشؤونهم الشخصية بعد الاستقلال، وقال محدِّثنا إن تاريخنا مزوّر والغالبية لم تصحح هذا التزييف فالتاريخ في واد والشعب في واد آخر، ولا زالت الحقيقة غائبة تماما.

كريم بلقاسم كان يختبئ في بيت بلونيس 
ذكرت زوجة الجنرال محمد بلونيس في شهادة تاريخية سابقة، وهي امرأة مثقفة، وبدأت عملها النضالي كمعلمة وعمرها لم يتجاوز 17 سنة، بعد أن درست في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أن كريم بلقاسم كان وفيا ومخلصا لزوجها، ولم يكن يتقاطع معه في الأفكار، وكانا يناضلان سويا في الحركة الوطنية وبالضبط في "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" بقيادة مصالي الحاج وهما يتكلمان القبائلية بامتياز ولم يكونا يثقان في أحدٍ سواهما، وهكذا ظل كريم بلقاسم يقضي مدة مختبئا ببيت بلونيس رفقة العقيد أعمر أوعمران وكذا علي أوعلي، بالإضافة إلى وعمر أوصديق، بعد أن هربا من منطقة القبائل. 
ويرى جمال قادة، وهو باحث في التاريخ الجزائري وابن المجاهد أحمد قادة الذي ظل يحارب فرنسا قبل الثورة بداية من 1947 ونائب مسؤول منطقة بسكرة وقائد فوج ليلة اندلاع ثورة أول نوفمبر، أن فرضية احتماء كريم بلقاسم ومن معه بـبلونيس لفترات صحيحة تاريخياً وقريبة من الواقع كون العلاقة بينهما كانت على ما يرام لفترة طويلة، حيث لم يكن بينهما أيّ خلاف يُذكر، وهما من المناضلين الأوائل في صفوف "المصاليين" وهذا ما عرفته شخصيا، ثم أن بلقاسم لم يلتحق بالثورة من بدايتها عكس البقية لكنه لما التحق بها أضحى أكثر عداءً لبلونيس من غيره نظرا لسابق معرفة بينهما وأسرار جمعتهما، ويقول المجاهد قادة: أرسلني مصطفى بن بولعيد صحبة البعض في فيفري 1956 إلى كريم بلقاسم، وكان بلونيس حينها يسيطر على مناطق القبائل الكبرى وجاء في محتوى الرسالة التي سلمناها له أنه لابد من فك الحصار عن الأوراس والقيام بعمليات عسكرية نوعية وضرب جماعة بلونيس من الداخل، بعد أن حمل الرائد يوسف يعلاوي رسالة لجبهة التحرير مفادها أن جيش بلونيس يسيطر على القبائل وإلى غاية البويرة، وكانت فكرة بلونيس أن الجيش الذي أسسه لضرب الثورة هو ملكٌ لمصالي الحاج وينبغي محاربة عناصر الثورة كونهم اختطفوا النضال السياسي ثم العسكري منهم ويصفهم بـ"الأطفال" الذين لا يمكنهم قهر فرنسا، لذلك تشجّع على التحالف معها.
 وتزعم زوجة بلونيس أن زوجها كان "يمنح مبالغَ مالية لجبهة التحرير ضد فرنسا؟" وتصفه بـ"القائد" وتقول إنه "ليس خائناً؟" وتضيف "هناك أشخاص -في إشارة ضمنية إلى كريم بلقاسم- كانوا يترددون على زوجي ويعملون باسم الجبهة وطلبوا منه مساعدتهم لأنَّ جيش التحرير أفلس ولم يكن قادرا على الاستمرار في محاربة فرنسا"، لكن بعض المجاهدين يرون أن هذا الأمر غير صحيح بتاتا، لأن بلونيس أعلن موقفه من البداية ضد مفجري الثورة وانفصل عن كريم بلقاسم، ولم يكن يعترف بأحد منهم وهو من أطلق على المجاهدين تسمية "الفلاڤة" بإيعاز من فرنسا التي  بقيت تسانده ماديا ومعنويا إلى أن اكتشفت أن ورقته العسكرية قد سقطت ولم يعد يصلح لمرحلة أخرى فقامت بتصفيته جسدياً لإبعاد الشبهة عنها.

كابران تحوَّل إلى جنرال 
زوجة بلونيس: زوجي "مناضل؟" وحركة مصالي كانت مخترَقة من بعض المخادعين
ترفض زوجة الجنرال محمد بلونيس التعريف بلقبها واسمها لأسباب خاصة، لكن يُعرف عنها أنها سيدة تربّت في أحضان الحركة الوطنية وتتلمذت على يد كبار العلماء المسلمين وبالتحديد جمعية العلماء، وباشرت التدريس في سن مبكرة لم تتجاوز 17 سنة من عمرها، وظلت تنشر الوعي السياسي والقومي والمساهمة في جمع الأموال لفائدة المصاليين، ويقال إن رجل دين يدعى محمد العاصمي هو من ساعدها على نشر العلم بين الناس وبقيت تباشر وظيفتها إلى أواخر عام 1947. 
أعجب بها محمد بلونيس وتزوجها في أوت 1947 وتقول عن زوجها إنه كان بسيطا ويمارس الزراعة ثم أدى الخدمة الإلزامية في ألمانيا لمدة سنتين وهرب إلى فرنسا وبالتحديد مارسيليا ثم طُرد إلى الجزائر ودخل الخدمة الوطنية الفرنسية لـمدة 03 سنوات. 
  وانضم إلى حركة مصالي الحاج الذي كان ينزل ضيفاً عنده في منطقة القبائل لأيام قبل أن يصبح الجنرال مسؤولا عن منطقة القبائل، وقد دخل السجن في ماي 1945، وألصقت به تُهمة قتل القائد الطيب في برج منايل. وتفيد شهاداتٌ تاريخية من مجاهدين أن بلونيس لم يكن سوى "كابران" لدى فرنسا وهو من قلد لنفسه رتبة "جنرال" دون أن يتلقى أي تكوين عسكري خاص يؤهِّله إلى هذه الرتبة بدليل أنه هرب من الخدمة العسكرية الإجبارية في ألمانيا، وأن فرنسا هي من تكتمت على رتبته وقبلتها لتخويف المجاهدين وتحويل "الجنرال" إلى "بعبع" في خطوة لتفتيت عناصر الثورة وضربهم تحت الحزام حتى توهمهم أن هناك جيشا منظما يقوده جنرال ليحاربهم.

 بلونيس وقضية بترول الصحراء 
يرى باحثون ومنهم جمال قادة ومؤرخون أن فرنسا لم تعرض على بلونيس حكما ذاتيا في الصحراء وبالضبط في منطقة حاسي مسعود لأنها كانت قبلها قد باشرت بداية من سنة 1956 أبحاثاً عن الذهب الأسود، ولم تكن ترغب في بسط أحد سيطرته على هذه الجهة، في حين كان هذا الأخير يقيم مع عناصر من جيشه في بوسعادة ثم الجلفة أي في حدود المناطق الجنوبية، بينما تفيد زوجة بلونيس في شهادتها التاريخية أنه في سنة 1947 فاوضت السلطاتُ الفرنسية زوجها من أجل منحه حكما ذاتيا في الصحراء (لم تحدد المكان بالضبط) وأضافت أنه رفض المقترح كونه "كان يحارب فرنسا؟" لا العكس، وليس من المعقول أن يقبل بنصف الجزائر وطلب من الإدارة الفرنسية القبول بشروطه كاملة لأنه "كان مقتنعاً بفكرة تحريرالبلاد؟"، وأن "مشكلته مع عناصر من جبهة التحرير وليس الجميع" على حدّ زعمها. واقترح على فرنسا الانتخاب بعد الظفر بالاستقلال، وكان يردد بعد وضع السلاح "إذا كان الشعب بقبل براعي غنم يحكمه فله ذلك"، وتقول في نفس الشهادة إن جنرالات فرنسا عرضوا على بلونيس أموالاً جمَّة وقصراً في أي دولة يريدها، لكنه جدد رفضه، وكانت تنظر إليه على أنه الفلاح الذي راوغها و"كوّن جيشاً لمحاربة الجميع من أجل أن يحكم الجزائر؟". 
ما يعطي الانطباع بأن بلونيس كان يحارب جبهة التحرير وفرنسا معاً، ولم يكن عميلاً لفرنسا، وهذا خطأ، لأن تعاونه مع فرنسا ثابت، وليس فيه أي تكتيك أو "مراوغة" كما تزعم زوجته، وتردف الزوجة قائلة "الذين يتهمون زوجي بالخيانة العظمى ومفاوضة الإدارة الاستعمارية هم من قبلوا بمفاوضات اتفاقية إيفيان ولا أحد اتهمهم بعد أن جلسوا مع الفرنسيين على طاولة واحدة وهي نفس الشروط التي وضعها بلونيس؟"، حسب قولها، وهو خلطٌ مرفوض ومغالطة مفضوحة، لأن جبهة التحرير فاوضت فرنسا في إيفيان دون أن توقف المعارك ضدها أو تتخلى عن السلاح كما اشترط دوغول، وأفضت المفاوضات إلى استقلال الجزائر، أما بلونيس فقد "تفاوض" مع الفرنسيين -إذا صحّ أن نسمي اتصالاته ولقاءاته بالقادة العسكريين الفرنسيين تفاوضاً- قصد التآمر على الثورة، ولا مجال للمقارنة بينهما وبين مقاصدهما.

استنجد بالفرنسيين لكسر حصار الجبهة 
كان بلونيس قبل أن يُتهم بالخيانة، يدير جيشه في منطقة قريبة من معاقل جبهة التحرير الوطني غير بعيدٍ عن الولاية الرابعة، حيث تعرَّض لحصار كبير وضغوط نفسية من المجاهدين، ما دفعه إلى طلب المساعدة والمؤونة من زيدان عاشور الذي يقود جناحاً آخر، فزوّده هذا الأخير بدعم من كتيبة تحمل أسلحة من بقايا حرب الألمان، بينما يقول بعض المجاهدين إن بلونيس تحصّل على الأسلحة من جهة مجهولة، وهي صفقة مع مرتزق إيطالي بإيعاز من ضابط فرنسي وتم الاتفاق على شراء شحنة فاقت 15 مليون فرنك في ذلك الوقت أي مبلغ باهظ جدا، وهو ما يفسِّر أن فرنسا كانت وراء دعمه بالمال حسب رواية مجاهدين لـ"الشروق"، وكان هذا في 27 ماي 1957.
أما مساعدة عاشور لبلونيس فلم تعمِّر طويلا وسرعان ما شك في تصرفاته، ففر منه ثم قُتل، بينما أحكم المصاليون سيطرتهم على هذه المناطق إلى غاية 8 نوفمبر 1956، لكن المجاهدين تمكنوا من الوصول إلى هذه المواقع، واستعان بلونيس بضباط في المخابرات الفرنسية ومن بينهم آيمزو ريكو لترتيب لقاء في 31 مارس 1957 وتكوين الفيلق 228 مشاة قاده جون ماري المدعو بوجي، بمنطقة برج الآغا ببوسعادة ويتكون من 40 ضابطاً و700 جندي وتكليفه بمهمة التمشيط جنوب مسعد والاتجاه شرقاً نحو عين الملح ببوسعادة، وفي هذه النقطة تمكنت طائرة هليكوبتر من اكتشاف مجموعة من المجاهدين عددهم 33 جنديا وتمت محاصرتهم بجبل ميمونة ولم تحدد هوياتهم، وقام بلونيس بمساعدة قائد الفيلق "جونماري" في المعركة، ما يوضح التعاون الكبير بين الجنرال وفرنسا في محاولة القضاء على المجاهدين.

لو التحق بجبهة التحرير لأصبح رئيساً للجمهورية 
بلونيس كان يرى أن المجاهدين اختطفوا النضال السياسي ثم العسكري من مصالي، وكان يصفهم بـ"الأطفال" الذين لا يمكنهم التغلب على فرنسا
يشير بعض الباحثين إلى أن شخصية محمد بلونيس لم تكن سهلة بالرغم من مستواه العلمي المحدود، ولو أنه التحق بالثورة التحريرية، لكان أول رئيس جمهورية بعد الاستقلال لأن نضاله في الحركة الوطنية وقربه من مصالي الحاج جعلا منه شخصية وطنية معروفة فضلاً عن أن بن بلة لم يكن أكثر شهرة منه، لكن تعنُّته وعدم التحاقه بالجبال جلب إليه عداء جميع المجاهدين بمن فيهم رفاقه، ولم يحقق له كبرياؤه كمناضل الانتصارَ السياسي الذي كان ينشده قبل اندلاع الثورة. وتذكر زوجة بلونيس أنها لما عادت إلى العاصمة عام 1958 قام أحد كبار المجاهدين بحمايتها وهي حامل وهو المجاهد محمد بلهوان لأنه يعرف جيدا "حقيقة بلونيس" الذي "لم تكن خلافاته مع الجبهة بقدر ماكانت مع بعض القيادات" على حدّ زعمها. ولم تكشف زوجته طريقة قتله، لكنها أشارت إلى أنه ليلة مقتله كان قد نظم اجتماعا مع جنوده في منطقة أولاد عامر وعقب يوم واحد تأكدوا أن أحد الحراس توارى عن الأنظار واتهم على أنه هو من قتله.

عائلته تطالب بـ"رد الاعتبار" له 
بعد مرور أكثر من نصف قرن عن حادثة بني يلمان واتهام بلونيس بالخيانة والموالاة لفرنسا، تطالب عائلته اليوم بما تصفه بـ"رد الاعتبار" على غرار ما فعلت السلطات الجزائرية مع مصالي الحاج، حيث نظمت له في وقت سابق ملتقى بتلمسان يتحدث عن مساره التاريخي والنضالي، وهو الملتقى الذي حضرته زوجة بلونيس التي ذكرت "أن الكثير لا يعرفون حقيقة زوجي ونواياه لذلك شوّهوا نضاله؟" و"قالوا إنه تمرد على مصالي وارتمى في أحضان فرنسا" وهي حسب زعمها "معلومات غير دقيقة؟"، مشيرة إلى أن أتباع مصالي أخفوا عنه عدة حقائق، كما أن "الحركة كانت مخترَقة من بعض المخادعين"، وهو ما اعترف به مصالي بعد الاستقلال لعائلة بلونيس، التي غادرت فرنسا نحو بلجيكا.
هذا ويصنِّف مجاهدون عايشوا الثورة بلونيس في الخانة السوداء ويعتبرونه من كبار الخونة لأنه رفض الانضمام إلى ما عُرف بالوحدة الوطنية وجبهة محاربة فرنسا، لأنه لم يكن مقتنعاً بأن "مجموعة من الأشخاص باستطاعتهم قهر العدو ببنادق صيد وأسلحة ألمانية الصنع من مخلفات الحرب العالمية الثانية"، وكان يؤمن بأن إخراج فرنسا يتطلب عتادا كبيرا عكس أصدقائه بوعلام محمود ومحمد بوضياف والوناس العمروني اعمر الذين فضلوا جبهة التحرير والجبال عن جيش الحركة الوطنية الذي كان يقوده في البداية سعيد ملزي لكن بلونيس تسلم زمام الأمور فيما بعد، وقامت فرنسا بتموينه بالسلاح، لأنه لم يكن لديه أي مصدر للتزوّد به في تلك الفترة سوى بعض البنادق جلبها البعض من المواطنين، واتباع له كانوا يعملون لدى الإدارة الاستعمارية وهي على علم بذلك وغضت الطرف عنه قصد محاربة جبهة التحرير.
 ومعلوم أن الولاية السادسة ظلت تسبح في برك من الدماء والتناقضات  لازالت غامضة إلى حد الساعة، ودوَّخت العديد من الباحثين وكذا المجاهدين، كما أن بعض الشهادات لم تُوثق إلى حد الساعة ضد بلونيس كونه كان يقود جيشا مسلحا يحارب جبهة التحرير.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.