اغتيال شعباني مؤامرة حبكها ضباط فرنسا ونفذها بومدين

حوار مع علي بن فردية الحارس الشخصي للعقيد شعباني / الجزء الأول

نقدم بداية من هذه الحلقة شهادات المجاهد علي بن فردية، المدعو إبان الثورة بـ”الصحراوي”، حيث كان الحارس الشخصي، وأمين سر العقيد محمد شعباني رحمه الله، يحدثنا الرجل كيف قضى فترة نضاله رفقة العقيد، ويستحضر مواقفه التي وصفها بـ”البطولية والحاسمة”، كما يعود بنا إلى مسار شعباني بعد الاستقلال، مدينا وبشدّة طريقة تصفيته الجسدية، بكيفية نعتها المتحدّث بـ”البشعة وغير الإنسانية”، ليتّهم من سماهم بـ”ضبّاط فرنسا” بتدبير المؤامرة، وتنفيذها من طرف الرئيس الراحل هواري بومدين.
وعن شخصية قائده، أردف عليّ بن فرديّة، قائلا: كان الجميع يلتفّ حول العقيد شعباني، وهذه حقيقة لا ينكرها إلا جاحد، ما خلق حسدا كبيرا لدى بعض القادة. مشددا على أنّ هذه الشهادة لا علاقة لها بأيّ اتجاه سياسي أو اجتماعي أو جهوي معيّن، وإنما هي مجرد مذكّرات تاريخية هامّة، لأنّ البعض يعتبر المجاهد علي بن فردية بمثابة “العلبة السوداء” للعقيد محمد شعباني، بسبب قربه الشديد منه، وتعرّضه لجميع أنواع “الظلم والتضييق” والمساءلة من طرف نظام بومدين، بعد إعدام “أصغر عقيد في الثورة” عام 1964.
إذا طلبت منك أن تقدم نفسك لجيل الاستقلال، ماذا تقول عن بن فردية “الصحراوي”؟
أولا قبل أن أفتح قلبي لك يا ابني، يشهد الله أني لا أريد من هذه الشهادة أي مساس بشخص أو بجهة أو مؤسسة مهما كان حجمها، وإنما عمري الذي تجاوز الآن 77 سنة حتّم عليّ عدم كتم الشهادة مصداقا لقوله تعالى (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).
لقد رأيت أن التاريخ لم ينصف العقيد شعباني بعد نصف قرن من الاستقلال، وخفت أن يتخطفني الموت ولا أذكر هذا البطل في هذه الدنيا الفانية، وبما أني تقدّمت في السن ولا أخشى أحداً اليوم سوى الله سبحانه وتعالى، قررت خوض تجربة الحديث عن شخصية العقيد البطل لأني كنت حارسه الشخصي ورفيق دربه، جمعتنا الأيام زمن الثورة وبعد الاستقلال مع شعباني، فكان منها الحلوة والمرة، أنا من عرش الشعانبة كنت أعمل قبل التحاقي بالثورة في إحدى الشركات النفطية الفرنسية تسمّى حينها (لا.لا. نك وسيام) متخصصة في حفر الآبار البترولية بحاسي مسعود وبالضبط بداية 1958، حيث كنت أعمل سائق رافعة بترولية، لا يقود هذه الآلة إلاّ شخص محترف لديه دراية وخبرة وإلى جانب ذلك، كنت أمتاز بأخلاق طيبة مع الفرنسيين والجزائريين معا.
وكشاب نشيط وحيوي كسبت قلوب الجميع، كان لدى أصدقائي في منطقة بريان بغرداية من عائلة قرين، وهي أسرة كلها ثورية، فعرض عليّ الشهيد أحمد طالب رحمه الله أن أساعد الثورة بجمع الخرائط البترولية، ثم رفعها إلى القادة، فلم أتردد في ذلك بصفته مسؤولا ومجاهدا ويتحكم في محور ورقلة، بريان، متليلي.
صراحة لم أفهم ما علاقة عملك في هذه الشركة البترولية الفرنسية بشعباني والثورة؟
قلت لك كنت مشرفاً على إعداد التقارير عن منابع تواجد النفط في الصحراء ومواقع اكتشافه بحاسي مسعود، بداية من سنة 1957 وإحصاء كل ما له علاقة بإنتاج البترول، لاسيما الخرائط بصفتي متعلما وملازما لمدرسة العلامة الشيخ محمد بلحاج عيسى رحمه الله بورقلة، وهو شيخي ومن كبار العلماء بالجهة، لذلك كنت أحظى باحترام الجميع وكنتُ شابا مطيعا وأمينا، فضلا عن شعوري الكبير بالانتماء وحب الوطن، بالرغم من عملي مع الإدارة الفرنسية كموظف يعيل عائلة فقيرة، فقد تبوّأت مكانة وثقة لا مثيل لهما لدى الطرفين الفرنسي والجزائري، ولما أرادت الحكومة المؤقتة الجزائرية معرفة كل التفاصيل عن منابع النفط وكيفية تحكّم فرنسا فيه اتصلت بي شخصيا عن طريق الشهيد أحمد طالب رحمه الله، ثم تعرفت على العقيد شعباني في قيادة الزعفرانية بين بوسعادة وبسكرة، بعد أن هربت من الشركة ولم أكن أعرفه من قبل، وكان ذلك بداية سنة 1958.
من الذي كان يريد الحصول على تقارير النفط في الصحراء الحكومة المؤقتة الجزائرية أم شعباني؟
الحكومة هي التي كانت تريد ذلك، لكن شعباني أوّل من تسلمها مني، لأنّ حاسي مسعود يتبع القيادة السادسة، وما على الحكومة سوى المرور على هذا السلم، وهنا بدأت قصتي مع الثورة التحريرية والضباط والقادة العسكريين، من بينهم العقيد شعباني رحمه الله وقنتار، والطبيب النقيب خير الدين، كنت مكلفا رفقة بعض العناصر بسبب ثقافتي وازدواجية لغتي بإعداد خرائط الحفارات البترولية إلى جانب قيادتي للرافعة، والتي لم يكن بمقدور أحد في الجزائر التحكم فيها آنذاك، كما كلفونا بالمسح الفوتوغرافي ميدانياً في ربوع الصحراء، بسبب نقص مهارة العمال، إلى جانب إعداد التقارير الرسمية للدوائر الفرنسية.
لقد طلب مني الشهيد أحمد طالب رحمه الله، والذي كُلف حينها بإدارة الجهة الجنوبية بوجوب تسريب الخرائط لقيادة الثورة وعدم الالتحاق بها، عكس ما طلب مني البعض قبل هذا التاريخ، وقال لي الشهيد أحمد طالب بالحرف الواحد “نحن نحتاجك داخل الشركة الفرنسية النفطية وليس في الجبل”، لكن صراحة كنت متحمسا للفكرة الثانية، وخفت أن ينكشف أمري في حال تسليم التقارير والخرائط، وبما أن الورشة تضم عددا من العمال قررت تسليم الخرائط للثورة ولو كلفني ذلك حياتي.
يعني من كلامك أن الشهيد أحمد طالب كان مفتاح دخولك إلى قفل شعباني؟
أحمد طالب رحمه الله وزع بيني وبين المجاهد بن يوسف مدقن المعروف بـ”الصاروخ” المهام وقسّم علينا الطريق، وكنا نعمل سويا على تأمين البريد ونقل رسائل الثورة، بسبب معرفتنا الكبيرة للمراكز الخاصة بالجيش والمدنيين في جميع المناطق من الصحراء وإلى غاية الأوراس، كما كلفنا أيضا بتمويل المجاهدين بالخبز، وتحويل ونجدة جرحى المعارك أثناء الثورة خوفا من نزيفهم، وتزويد المجاهدين بما يُعرف في الجنوب عموما إبان الثورة بـ”العلف” والمقصود الرصاص لمغالطة فرنسا.
كان المجاهدون يفضلون 10 رصاصات على نصف خبزة، ونستبدل البرتقال والتفاح بالرصاص من أجل محاربة العدو حتى لا ينفد الرصاص يوم المعركة، كنت في البداية بمثابة ممون للثورة ومزودها في جهتي، وأمين سرها، لذلك كانت ثقة الجميع كبيرة في شخصي، أذكر أن المجاهد بوحفص بوزيد، أو بوحفص بن صالح، كما يلقبه البعض وهو شخص قوي البنية من عرش بني ثور، كان يزودنا بصناديق من الرصاص، رغم أنه كان مجندا إجباريا عند فرنسا، كما أن مبروك بن منصور حفظه الله لعب دورا كبيرا في تهريب السلاح والرصاص إلى المراكز التي يشرف عليها شعباني بتنسيق مباشر معي طبعا.
حدّثني لمن سلمت الخرائط: إلى شعباني أم لغيره؟
الخرائط سلمتها أنا شخصيا إلى المجاهد الكبير صالح ماضوي أب والي إيليزي الحالي علي ماضوي، وهو من قام بنقلها، وقد عذبتني فرنسا كثيرا في المعتقل بعد انكشاف أمري وطلبوا مني ذكر اسم صالح لكني رفضت، ولم أستسلم، كانت تربطني بهذا المجاهد مصاهرة، حيث أن أخاه هو زوج أختي وتجمعنا علاقة وطيدة، وهذه أمانة لابد أن أذكرها لأنه رجل بطل، أما شعباني فكان حريصا على ضرب الإدارة الفرنسية في الصميم ومن الداخل من خلال الحصول على الخرائط والتقارير الفرنسية، حتى يُظهر للاستعمار أنه قادر على هزمهم.
لم أسمع يوما، أو أشهد ولو مرة واحدة كنت فيها رفقة شعباني، يتحدث عن الانفصال عن شمال البلاد، أو قال مثل هذا الكلام حتى في الحلقة الضيقة أو مازحاً، لقد حضرتُ جميع تنقلاته تقريبا واستمعت لجلّ الحوارات التي دارت بينه وبين القادة ومنهم بومدين وبن بلة والزبيري وغيرهم، ولم أشهد أبدا أنه ردد ذلك مطلقا.وعقب تسليمي الخرائط المقدرة بحوالي 127 بئر بترولية، وصلت إلى شعباني عن طريق مجاهد آخر يدعى “ثعلب الثورة” أطال الله في عمره، ظهر بعد أيام رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عباس على وسائل الإعلام من تونس وتحدث بدقة عما تفعله فرنسا بالصحراء، وكيف تستنزف ثروات الشعب وتحوّل النفط الجزائري إلى الخارج عبر أنابيب خاصة مباشرة من حاسي مسعود، ومما دوخ الفرنسيين هو أن رئيس الحكومة المؤقتة، تحدث بثقة كبيرة وكأنه موظف بالشركة النفطية الفرنسية، بسبب دقة الأرقام والمعلومات التي سرّبتها ومنها مسافات وأبعاد الآبار البترولية وعمقها وأماكن تواجدها وكم تضخ من الذهب الأسود في الثانية وعدد البراميل المنتجة في الساعة واليوم، منها 127 منبع بترولي، وهنا بدأت فرنسا تشك في الجميع، بالمقابل أراد العقيد شعباني معرفة من هو مسرّب الخرائط وكيف تمكن من ذلك؟ فكان أول لقائي به في بسكرة عام 1959.
كيف توطدت علاقتك بالرجل لاحقا؟
بعد حادثة الخرائط النفطية أراد شعباني معرفة منْ الشخص الذي قام بهذا العمل المحكَم وكيف تحصل على الوثائق والخرائط، فقابلته أول مرة في مركز ثوري بمنطقة “الغروس” في ولاية بسكرة سنة 1959، وبدأت أشق طريقي في الثورة وقررت الهروب من الشركة البترولية الفرنسية ثم تقابلنا عدة مرات في بوسعادة وبسكرة وورڤلة.
ونظرا لكوني مثقفاً باللغتين العربية والفرنسية، نصحني القادة عن طريق وسيط، بعدم الصعود إلى الجبل، وقيل لي إنك مكلف بمهمات أخرى مفيدة للثورة، وبالرغم من إلحاحي على وجوب التحاقي بالمراكز، كُلفت بنقل بريد شعباني، بداعي الخبرة التي أملكها في تصفح الأمور والقراءة والكتابة باللغتين والتدقيق خاصة البريد السري المتعلق بقادة الثورة من الجنوب إلى الأوراس مروراً بالولاية السادسة، كما كُلفت بالإشراف على تنظيم الفدائيين، وضبط العلاقة بين المراكز والقيادة، علما أن الفدائي لا ينخرط في صفوف جيش التحرير، إلا إذ كان ذا أخلاق وثقة وسرياً ويمتاز بالصبر والقدرة على تحمل المتاعب، وكنت كلما سلمت البريد إلى العقيد شعباني من رسائل تنسيق وأوامر ومهمات، وكذا جمع الرصاص وسط التمور والأسلحة المختلفة ، زادت ثقته بي فقربني منه ولم يعد يثق في أحد، وقرر تحويلي إلى حارسه الشخصي وسلمني رشاشا ألماني الصنع ولم تفارقني هذه القطعة إلى غاية سنة 1963.
ولم أكتف بهذه المهمة، بل أسند إليّ وظيفة ثانية وهي سائقه الشخصي، لأنه كلما دعاني استجبت إلى مهمة التنقل معه مهما كانت وضعيتي الصحية كالتعب والأرق وقلة النوم أحيانا، فقضيت معه سفريات إلى عدة مناطق واستمعت إلى كل ما كان يدور بينه وبين الشخصيات الوطنية والقادة خصوصا منهم الطاهر زبيري وعمر صخري وبن بلة وبومدين، ثم كلفي بمهام سرية أخرى. حقيقة عشت معه أسراراً وحكايات؛ فالرجل عطوف وخلوق ومهذب، لم تفارق السجادة سيارته، حيثما حل وارتحل كان يقرأ يوميّا حزبين من القرآن أو ما يسميه هو “الورد اليومي” رحمه الله، وهو خريج المدرسة الباديسية.
هل كنت تقضي معه كل الوقت وعلى مدار الأسبوع؟
ليس هذا فقط، بل كنت ظله كلما تحرك، وأقضي معه أسابيع وأحيانا أخرى نفترق بسبب الأوضاع، هذا أثناء الثورة وبعد الاستقلال، ورغم أنه كان يثق بي كثيرا، إلا أنه يعتمد على نظام التناوب سواء في الحراسة الجماعية أو الفردية، وفي الوقت الذي يعفيني من الحراسة، يكلفني بقيادة سيارته ويحصل لي الشرف أنّي أنا من علمته قيادة السيارة، وجمعتنا طرائف عديدة، ولا زالت أتذكر كيف مسك موقد السيارة لأول مرة وكيف “كالاها عدة مرات”، أي أسكت محرّكها، وكيف مازحته كثيرا، غير أنه تعلّم السياقة في ثلاثة أيام فقط بسبب سرعة فهمه ودهائه وفطنته.
كان ينصحني أثناء التنقل بين المراكز بحمل لباسين؛ الأول لراعي غنم، والثاني لباس نسوي خارجي “عجار زائد حايك”، وهذا ما قمت به، وكلما شعرت بالمراقبة الفرنسية ارتديت أحدهما، حسب الموقع والزمان والمكان وخطورة الموقف.
من بداية الحوار وأنت تحدثني عن الرجل وكأنه نبي، لكن خصومه يرون عكس ذلك؟
الخصوم الذي تقصدهم، من بينهم بن بلة وبومدين وبن الشريف والعربي بلخير وبن جديد وغيرهم كثر، كانوا يغارون منه، لأنه متفوّق عليهم وشاب طموح يؤمن بتفوق الثورة وصمودها في وجه الحلف الأطلسي، ويؤمن أن الجزائر ليست شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وإنما هي كتلة موحدة، عكس البعض ممن تبنّوا العمل المسلح، ولم يطلقوا ولو رصاصة واحدة على العدو، بل قتلوا من المجاهدين، أكثر ممّا قتلوا من جنود فرنسا، هذه حقيقة مرّة وتصفية شعباني، تمت بداعي الحسد والغيرة وهي تتعلق بتصفية حسابات شخصية أكثر منها لمصلحة البلاد، أو بسبب خيانة عظمى، والتاريخ سوف يشهد يوم القيامة، وأمام الله من كان “الحركي”، ومن هو المجاهد والشهيد الحقيقي أيضا.
العقيد شعباني رحمه الله لم يطلب أيّ مسؤولية، بل رفض منصب نائب وزير الدفاع لما عيّن على رأسه الطاهر الزبيري، وقال للجماعة “اسمحوا لي أريد العودة إلى بيتي والعمل بين صفوف الناس البسطاء الذين ألفتهم”، على غرار ما فعلت جميلة بوحيرد وياسف سعدي بعد الاستقلال، لكن هذا التصرف فُهم على أن الرجل يفكر في أمر ما، ومنه لفقوا له تهمة محاولة الانفصال عن شمال البلاد، وللأمانة التاريخية لم أسمع يوما، أو أشهد ولو مرة واحدة كنت فيها رفقة شعباني، أنه قال مثل هذا الكلام حتى في الحلقة الضيقة أو مازحاً، لقد حضرتُ جميع تنقلاته تقريبا واستمعت لجلّ الحوارات التي دارت بينه وبين القادة ومنهم بومدين وبن بلة والزبيري وغيرهم، ولم أشهد أبدا أنه ردد ذلك مطلقا.

حوار مع علي بن فردية الحارس الشخصي للعقيد محمد شعباني / الحلقة الثانية
أحمد بن شريف هو أشدّ ضباط فرنسا كُرهًا لشعباني

يُواصل المجاهد علي بن فردية المدعو الصحراوي إبان الثورة والحارس الشخصي للعقيد محمد شعباني إلى ما بعد الاستقلال، شهادته التاريخية حول شخصية الرجل، مؤكدا أن من قتل شعباني هم ضباط فرنسا، وأن هواري بومدين ما هو سوى منفذ لعملية الإعدام، ويكشف أنّ العقيد رحمه الله كان يفضّل أعمال بعض “القيّاد” الذين تعاونوا مع الثورة، على ضباط فرنسا، حيث وصفهم شعباني أنهم “خطرٌ على الثورة ومستقبل البلاد، ويجب استئصالهم”.
لماذا تلفق التهمة لضباط فرنسا بقتل العقيد شعباني؟
هي ليست تهمة، وإنما حقيقة لأن العقيد شعباني كان يجهر بكرههم ويقول يجب استئصال هؤلاء لسببين: الأول أن الضباط لم يلتحقوا بالثورة، إلا بسنة قبل الاستقلال كما التحق عدد منهم قبل شهور فقط من الاستقلال، أي في الوقت بدل الضائع، بالرغم من الاتصال بهم من قبل لتدعيم الثورة ورفضهم ذلك، والثاني أنهم يمثلون الوجه الآخر لأمهم فرنسا ودسائسها.
هل هم سيّئون إلى هذه الدرجة؟
هذا ليس رأيي الشخصي، وإنما وجهة نظر العقيد شعباني، كان يقول لنا إن أعمال بعض “قيّاد” فرنسا -والمقصود بهم “الحركى”- أولى من ضباط فرنسا، لأن عددا كبيرا من “القياد” قدّم للثورة مساعدات جمة فمثلا “القايد العيد” ولقبه بوسعيد رحمه الله في ورڤلة سرب بندقيته الشخصية إلى الثورة وتسلّمها منه شعباني عن طريقي شخصيا، وقال لي شعباني بالحرف الواحد “سلّمه وصلاً بذلك”، بالرغم من أن البندقية كانت مسجّلة باسم “القايد” لدى السلطات الفرنسية سنة 1960، ثم ادّعى “القايد” أنها ضاعت منه في الصحراء، وبعدها سلمته فرنسا بندقية ثانية، ناهيك عما قدّمه من رصاص، كما نصح البعض في جهات معينة بعدم الخروج، كلما حاولت فرنسا تمشيط المكان، حتى لا ينكشف أمر بعض المجاهدين، وأنا صراحة في بعض الأحيان أختبئ في بيت “القياد” حتى لا تطاردني فرنسا، زيادة على قام به بعض الأطباء المتعاونين مع فرنسا ورؤساء البلديات ومعاونيها وآخرين، إن قصص وحكايات هؤلاء مع الثورة وما وصل إلى شعباني من أموالهم وعملهم لفائدة الثورة جعلته يشعر بمعاناتهم تجاه فرنسا، كونهم يعملون إجباريا، فمن جهة يعاونون فرنسا كونها المعيل، ومن جهة يعملون مع الثورة، في حين كان شعباني متأكدا أن ضباط فرنسا لم يقدّموا سوى النزر القليل للثورة، ويخاف من تسريب أسرارها، ويشك في أن فرنسا أرسلتهم كمخبرين وطلبت منهم اختراق الثورة، لذلك توجس منهم خيفة، ولم يثق فيهم بالرغم من بقائهم ضمن عناصر الجيش، كان يسميهم “أبناء فرنسا الذين لن يخونوا أمهم” وهو ما جلب له عداوتهم.
من خطط للتخلص منه؟ وهل وصلته أخبارٌ قبل إعدامه؟
سبق وأن حذر عددٌ من العقداء شعباني من وصول كلامه إلى ضباط فرنسا، لكن الرجل لم يكن يخشى أحداً، وهو لم يخف من فرنسا والحلف الأطلسي فكيف يخاف من أبناء فرنسا؟ بشجاعته المألوفة وصلابة موقفه ورأيه لم يجرؤ أحدٌ من هؤلاء الضباط على الوقوف أمامه، وحتى الزعماء بما فيهم بومدين كان يخافه كثيرا، أو الحديث بصوت عال في حضرته، لكن وقوف بومدين رحمه الله معهم وتأييده لهم حبا في المنصب جعلهم أكثر قوة، بينما كان شعباني يقول “نحن خَدم الشعب، ولسنا خدم فرنسا، والصحراء تمثل عصب البلاد من الناحية المادية -ويقصد البترول- لن نفرّط فيها لفرنسا وضباطها”.
شعباني أبلغ جميع القادة بخطورة ضباط فرنسا على استقلال البلاد، لكنهم لم ينصفوه ولا أحد استمع إليه، وهو ما اعتبره “حڤرة” في حقه وحق الشعب الذي جاهد من أجل إخراج فرنسا ومن عاونها وليس الخروج من النافذة والدخول من الباب وبقاء الاستعمار بأشكال أخرى.
ومعلوم أن العقيد أحمد بن شريف كان أشدّ ضباط فرنسا كرهاً لشعباني، وهو من نفذ حكم الإعدام بمساعدة بعض معاونيه، ولما مسكوا بشعباني في جويلية 1964 بأمر من هواري بومدين، اعتقلوني أنا كذلك في ورڤلة، رغم أني كنت في هذه السنة قد طلقت الجيش، حيث استنطقوني بطريقة مهينة بأمر من بومدين وزير الدفاع الوطني في ذلك الوقت، وأرادوا أن يفتكوا منّي تصريحا ضد العقيد شعباني فرفضتُ بصفة مطلقة، وظلوا يضغطون عليّ لأيام قبل أن يخلوا سبيلي.
قلت لي مرة إن شعباني له فضل على بن بلة كيف ذلك؟
نعم، لقد كلّفني مرة العقيد شعباني رحمه الله بمهمة إلى العاصمة من أجل نقل المجاهد عمر صخري إلى بن بلة لتهريبه إلى جهة مجهولة، فقام صخري بهذه المهمة، ولما انتهت بنجاح فهمت من صخري، أن شعباني خطط لمساعدة بن بلة على الهروب من قبضة فرنسا ثانية، بعد أن دبر له فكرة الهروب بالزيّ النسائي ونجحت الخطة، لكن بن بلة ومن معه خاصة بومدين، هم من أعدموا شعباني ونفذ العملية ضباطُ فرنسا، لكن الله انتقم منهم، حيث جهّز بومدين والعربي بلخير وبن شريف قبر شعباني قبل المحاكمة الشكلية التي وُصفت بالعار في حق أصغر عقيد في العالم في تلك الفترة.
هل تعتقد أن شعباني تمرّد على بومدين أم العكس؟
بومدين تمرد على شعباني وليس العكس، والحقيقة أنه كانت بين الرجلين مواقف متناقضة؛ في إحدى المرات بعد الاستقلال زار بومدين القيادة السادسة، وكنت من بين الحضور رفقة العقيد شعباني، فنزل بومدين إلى مخزن السلاح لمعاينة الشحنات، بينما كنا نحن الحراس في الخارج، فسمعت بومدين يرفع صوته على شعباني ويقول له “جيشي أفضل من جيشك”، فانفجر شعباني في وجهه، قائلا له “جنودي لم يحاربوا على الحدود أو يتلقوا الصدقات، لو أمسكتَ بجندي من جنودي ونزعتَ لباسه لاكتشفت لباسه الجلدي الثاني من شدة الوسخ و(التمرميد) وهؤلاء هم جنود الجزائر الذين أعوّل عليهم وليس من كانوا على خط التماس”، فسكت بومدين وخرج الاثنان من المخزن وقد كان القلق والاحمرار باديين على وجه بومدين.
هذا الأخير كان يفضل ضباط فرنسا على بقية الجنود، وهذا ما أنكره شعباني بكل صراحة وعبّر عنه في أكثر من خطاب في بسكرة وخارجها.
كان يقول أيضا يجب تطهير الجيش من هؤلاء؟
هو لم يكن يتستر على هذا، بل يجهر به أمام الملأ، وشعباني أبلغ جميع القادة بخطورة ضباط فرنسا على استقلال البلاد، لكنهم لم ينصفوه ولا أحد استمع إليه، وهو ما اعتبره “حڤرة” في حقه وحق الشعب الذي جاهد من أجل إخراج فرنسا ومن عاونها وليس الخروج من النافذة والدخول من الباب وبقاء الاستعمار بأشكال أخرى.
كيف أشعر شعباني الحكومة المؤقتة بما يحدث؟
أنا لم أكن في الإدارة بقدر ما كنتُ ملازماً له يومياً في الميدان إلى غاية نهاية 1963، لكن قيل لي إن العقيد رحمه الله أخطر الحكومة المؤقتة بما يقوم به البعض من تغييرات دون مشاورة، حيث أنه في صيف 1962، أبرق شعباني رسالة إلى الحكومة المؤقـتة تتحدث عن أنه من يوم 19 مارس 1962، أصبحت بعض العناصر تتحدث باسم الحكومة المؤقـتة، وتهمّش عددا من المسؤولين والمجاهدين الذين ساهموا في الثورة، وتعوضهم بأشخاص أعداء للشعب.
لكن ما علاقته كعسكري بالحكومة المؤقتة التي تضم سياسيين؟
شعباني أراد أن ينبه بأنّ ضباط فرنسا يتصرفون وكأننا لم نحصل على الاستقلال على الإطلاق، وأصبحوا ينصّبون أقرباءَهم في مراتب حساسة في الجيش والمناصب المدنية، وهم في الأصل “حركى” وخونة بشهادة سجلّ الثورة والشهود، وهذا ما حزّ في نفسه فظل يردد أن “البلاد سوف تذهب إلى الهاوية مع هؤلاء الأشخاص” لكن لا بن بلة ولا بومدين كان يقبل بمثل هذه النصائح.
لا، شعباني لم يكن يتدخل في شؤون الحكومة المؤقتة، وكان جديراً بأن يكون وزيرا للدفاع فيها، لكنه أراد أن ينبه بأنّ ضباط فرنسا يتصرفون وكأننا لم نحصل على الاستقلال على الإطلاق، وأصبحوا ينصّبون أقرباءَهم وأصولهم في مراتب حساسة في الجيش والمناصب المدنية، وهم في الأصل “حركى” وخونة بشهادة سجلّ الثورة والشهود، وهذا ما حزّ في نفس شعباني رحمه الله، وظل يردد أن “البلاد سوف تذهب إلى الهاوية مع هؤلاء الأشخاص” لكن لا بن بلة ولا بومدين كان يقبل بمثل هذه النصائح.
يعني أنه أراد أن يمسك قبضته على كل المنافذ؟
لا، لا.. أعرفه، لم يكن يحب المسؤولية، بقدر ما كان يحب الوطن ويخاف عليه، ويقول يجب أن لا نخسر الشعب الذي وقف معنا ضد فرنسا، وأن وجود ضباط فرنسا ومعاونيها في مراتب عليا سوف يجعل الشعب يحكم على الجميع بالخيانة العظمى بما في ذلك الشعب في الخارج.
لكن قلت لي إنه يفضل بعض “الحركى” على ضباط فرنسا؟
لم أقل كان يفضّل “الحركى” بل يفضل بعض أعمالهم تجاه الثورة، وما قاموا به من مساعدات أفضل بالنسبة إليه من ضباط فرنسا الذين لم يقدموا أي شيء سوى الاستحواذ على المناصب، ظل يردد بعد الاستقلال يجب أن تقفوا مع المدنيـين حتى ينصروننا يوم الاستفتاء حول تقرير المصير، هذا هو هدفه وليس العكس، لكن تقرّب بومدين من ضباط الجيش الفرنسي لم يكن سهلا، وهو لم يكن يعجبه خطاب شعباني، خاصة الذي ألقاه في مسعد بالجلفة، حين قال إن “عملاء فرنسا دخلوا جيش الحدود”، ومعروفٌ أن بومدين كان يقود جيش الحدود، لذلك ازداد حقدُ بومدين عليه، فقام بهيكلة الجيش وأصبحت الولاية السادسة هي الرابعة ونقلها إلى ورڤلة، ثم عزل شعباني لأنه طلب منهم صراحة تطهير الجيش من ضباط فرنسا، خاصة الذين لم يلتحقوا بقوى الثورة في الداخل.
هل تعتقد أنه سببٌ كاف لإعدام عقيد شاب يكره فرنسا؟
صراحة ليست هناك أسبابٌ واضحة لإعدامه. بعض من الغيورين اتهموه بالانفصال، لكن قضية تطهير الجيش من ضباط فرنسا هي المشكلة حقا، وهم يعرفون الدواعي الحقيقية لإعدامه لأنه يكرههم، ولو عرفتم شعباني عن قرب مثلي سوف تـتأكدون أنه لم يكن طمّاعا أو شريرا أو متسلّطا، بقدر عزمه على قول الحق، ورأيه يقوله ولا يخشى لومة لائم، بومدين كان كلّما وجد شخصًا ينافسه يحاول تصفيته، وضباط فرنسا ساعدوه على هذه المهمة، لم يكن بمقدور أي مجاهد حرّ جاهد من أجل تحرير البلاد أن يقـتل أخاه من أجل منصب، فأين هو بن بلة وبومدين والبقية تأتي؟ كلهم دُفنوا أو سوف يُدفنون تحت التراب.
يقال إنه طلب منهم تسيير قيادة أركان الجيش جماعيا وهذا لم يعجبهم؟
لم أتذكر هذا على الإطلاق، غير أني سمعت البعض يقول إن شعباني عرض على بن بلة بعد الاستقلال أن تُسيّر قيادة أركان جيش التحرير بصفة جماعية لمدة معينة، وتظل دورية، على أن يُختار القائد من بين الأعلى رتبة، بغية النأي بالجيش عن الصراعات الداخلية أو الانقلابات التي كانت سائدة في بعض الدول في تلك الفترة، لكن هذا المقـترح ضاعف من غضب وشدة كره هواري بومدين لشعباني، حسب رواية البعض.
متى ظهر الصراع جليا بين بومدين وشعباني تحديدا؟
خلال المؤتمر الرابع لحزب جبهة التحرير، رفع العقيد شعباني تقريرا يتضمّن التماس تطهير الجيش مجددا ممن سماهم “الغرباء” أي ضباط فرنسا، لكن بومدين رفض ذلك وشعر بأن شعباني أضحى ينافسه، فقام بتعيـين الرائد عمار ملاح خلفاً له في قيادة الناحية العسكرية الرابعة بورڤلة، وهنا بدأت عملية التفكير في التخلص منه.
أعتقد أنه اشتدّ في صيف 1964، لكني كنتُ ساعتها خارج الخدمة العسكرية وموظفاً في بلدية ورڤلة وأتابع الأخبار عن كثب، حيث أنه خلال المؤتمر الرابع لحزب جبهة التحرير، رفع العقيد شعباني تقريرا يتضمّن التماس تطهير الجيش مجددا ممن سماهم “الغرباء” أي ضباط فرنسا، لكن بومدين رفض ذلك وشعر بأن شعباني أضحى ينافسه، فقام بتعيـين الرائد عمار ملاح خلفاً له في قيادة الناحية العسكرية الرابعة بورڤلة، وهنا بدأت عملية التفكير في التخلص منه.
هل حاول شعباني تكوين جيش آخر في الصحراء ضد بومدين؟
لم يتصل بي شعباني في تلك الفترة، وخبر اعتقاله وصلني من الغروس في بسكرة، وبعد أيام قامت مصالح الشرطة في ورڤلة باعتقالي وتفتيش منزلي وطرحت عدة أسئلة حول علاقتي به، وهل اتصل بي بعد تنحيته، وماذا كان ينوى القيام به وغيرها من الأسئلة؟ وضغطوا عليّ لأيام مع الترهيب والتعنيف بغية افتكاك جديد لصالحهم.
وبعد أيام، سمعت بتنفيذ حكم الإعدام في حق العقيد شعباني، فأصبت بالحمى ومرضت مرضا شديدا، كوني أعرفه جيدا، وقضيت معه أروع أيامي، وهو الذي تعلمنا منه الإخلاص وحب الوطن ورفض الذلّ وليس العكس، رحم الله الشهداء الذين سقطوا لنعيش هذه اللحظات التاريخية بكل تناقضاتها المعيشية في دولة توحّدت لإخراج الحلف الأطلسي، وتحاول أن تفرّقها الفتن والمناصب الزائلة.

حوار مع علي بن فردية الحارس الشخصي للعقيد محمد شعباني / الحلقة الثالثة والأخيرة
أحدُ ضباط فرنسا بصق في فنجان قهوة طلبه شعباني قبل إعدامه

يعود الحاج علي بن فردية، المدعو الصحراوي، في الحلقة الثالثة، إلى سرد شهادته حول شخصية العقيد محمد شعباني، والحديث عن الخيانة وضباط فرنسا وما وصفها محدثنا بالمؤامرة، وعن وجهة الأموال التي جمعت أثناء الثورة ومن أخذها؟ وأين صرفت؟ وهل صحيح أن شعباني حاول تهريبها كما يدعي البعض؟ وحقائق أخرى تنشر لأول مرة من رجل كان الحارس الشخصي للعقيد شعباني.
يؤكد الرجل أنه لا يتحدث إلا بما شهد، ومن قال إن شعباني خائن أو خان الثورة أو طمع في مسؤولية فقد كذب، كان بوسعه أن يكون رئيسا للجمهورية، نظرا إلى مستواه التعليمي الكبير الذي ينافس الزعماء بشهادة معظمهم، وشجاعته المطلقة، لكن المؤامرات الداخلية بين القادة، لا سيما ضباط فرنسا هي ما عجّلت بمقتله بدون محاكمة عادلة، ولا حتى تمثيل دولي، لقد عجّلوا بقتله لتقسيم التركة، لأنه يمثل العلبة السوداء للثورة وهو يعرفها أكثر مما يعرف ما بجيبه.
“عرفته شابا قنوعا وعفيفا، ولم يرضَ أن يأخذ ولو شق تمرة بالرغم من الأموال التي كنا نجمعها من المتطوعين وأموال الزكاة من الشعب، بشهادة بومدين شخصيا الذي قال ذات مرة: “الواحد منا كان يحمل كيس مال على كتفه من الأوراس إلى مغنية ولا يأخذ منه فلسا”، وأنا أحد هؤلاء الذين قاموا بهذا الدور بإشراف تام من شعباني وأمور أخرى، وقفت عليها شخصيا مع الفقيد وحملت أموالا كبيرة بـ “الشكاير” في سيارة شعباني ولم يأخذ منها ولا فلسا واحدا”.
هل تعتقد أن بائع العسل لا يلحس أصابعه؟
شعباني رحمه الله بطل ولا يُقارن ببائع العسل، فهو يعدّ أكبر مخلص للثورة وجيش التحرير، وهل يُعقل أن عقيدا يؤسس جيشا من الصفر بنفسه ثم يخونه أو يسرقه؟ هذا غير معقول تماماً ولا يصدقه عاقل ولن يصدقه أحد إلى حد الساعة في الجزائر عموما، إنها تهمة ملفقة وباطلة، لو أراد أن يكون مليارديرا كبيرا لكان له ذلك، لأن كل الجهة كانت إلى جانبه، النساء كن يجمعن قففا من الذهب والفضة والحلي، والرجال يأتون بأموال تحمل على ظهور الدواب ولم يأخذ منها الرجل ولو وجبة عشاء، كان يردد دائما: إياكم وأن يسلّم أحدٌ منكم والدتي فلسا واحد”. وللشهادة كانت امرأة متواضعة بطلة وتتغطى بـ “كوفيرتا” رثة لا تسلّم حتى لأفقر الفقراء، وقد حذرنا مرارا من أخذ هدايا أو مقتنيات إلى أهله في الغروس بولاية بسكرة، لأنه لم يكن يقبل بذلك، هل تعتقد أن مثل هذا الرجل يمكن أن يضع يده في العسل؟
أنت تعترف هنا أن شعباني جمع أموالاً جمة وذهباً وفضة.. أين هي؟
نعم أعترف، والجميع يعلم ما قام به شعباني من أجل إنجاح الثورة، لم يكن يجمع الأموال هو شخصيا، وكانت تأتينا من جميع أنحاء الجنوب كونها مناطق غنية، لو أراد أن يكون أغنى الأغنياء لفعل، بحكم مكانته بين أهله والجنوب عموما، وكل من يدفع “فرنكاً” أو معدناً يقابله وصلٌ محرر بختم الثورة وتوقيع شعباني رحمه الله أو من ينوبه، والوصولات موزعة على جميع المسبلين والفدائيين ومن يقوم بهذه المهمة. لم يكن شعباني يرضى بجمع المال بدون رخصة صادرة منه شخصيا، كما يرفض حساب الأموال أمام الناس منها أموال الزكاة وتبرعات الشعب وأصحاب الدخل المحترم في تلك الفترة.
وأذكر أنه كان يقول لنا: “لا تنظموا الأوراق المالية بشكل لائق (أي لا تسووها)، بل اتركوها على حالها كما رُميت في الشكارة من طرف أصحابها المتبرّعين حتى لا يُفهم أن أحداً يأخذ منها شيئا”، كان ذكيا للغاية، أنا متأكد من خلال ملازمتي له أنه نظيف عكس بعض الخونة الذين نهبوا البلاد منذ الاستقلال، وكلما يتحرك الشبان اليوم للمطالبة بحقوقهم المهضومة في الجنوب، يحركوا لنا الملف القديم الجديد وهو “تهمة الانفصال”، نحن لسنا خونة وخدمنا الثورة بإخلاص وكنا في الصفوف الأمامية والتاريخ يشهد على ذلك.
هل صُرفت هذه الأموال على الجيش مثلا؟
الله على ما أقول شهيد، في نهاية 1962 وبداية 1963، كنا في مهمة نحو الولاية الرابعة على متن سيارة من نوع “جيب” أقودها أنا شخصيا، وأحمل سلاحا رشاشا، وإلى جنبي العقيد محمد شعباني وخلفنا 03 حراس شبان أحدهم يحمل راديو. وقبل أن ننطلق كلفني شعباني بحمل الأموال في السيارة لأخذها معنا إلى العاصمة، لأن عناصر الجيش جياع، وكانت أموالا جمة بصراحة وبالعملة الفرنسية، فقلت له: “إن حمل الشكارة بهذه الطريقة يثير الشكوك”، فلم يناقشني في الأمر، ثم أسرعت مهرولا إلى محل تجاري قريب واقتنيت دلوين بلاستيكيين من حجم 20 و 30 لتراً، ثم أخرجت خنجري وقسمتهما إلى نصفين بالعرض في شكل صندوق، ثم سلمني شعباني رحمه الله “الشكارة” ممتلئة عن آخرها بالأموال أكثرها ورقية وأفرغتها في الدلوين، ثم وضعتها في مقدمة المرْكبة حتى لا يتفطن إليها أحد، بما في ذلك الحراس، وهي تمويه تعلّمته من شعباني حتى يعتقد البعض أن الدلوين مخصصان للماء أو البنزين، كنت حريصاً وبشدة على المحافظة على الأموال لأنها أمانة قبل كل شيء.
لكن لم تجبني إلى أين ذهبت هذه الأموال؟
كنا في مهمة ملاقاة جيش الولاية الرابعة مع جيش الولاية السادسة، ولما وصلنا طريق البرواقية بدأنا نوقف الشاحنات الكبيرة على فترات، ونطلب من السائقين تفريغ الحمولة في المكان، ونمنحهم الأموال ونكلفهم بشراء المؤونة لجيش الولاية السادسة منها الخبز والسردين وبعض المواد الاستهلاكية، لأن عناصر الجيش كانوا جياعا، على أن نعيد للسائقين سلعهم بعد تفريغ الحمولة في الثكنات بأمر من شعباني، وقد لاحظت شخصيا تضامنا شعبيا لا مثيل له في هذه العملية.
ولما وصلنا إلى الجزائر العاصمة، استقبلنا الجيش بحفاوة وبالتصفيق والتهليل، ثم نزل العقيد محمد شعباني من “الجيب” ودخل مقر القيادة ونحن خلفه 04 حراس بينهم الحارس الطاهر العيشي من بوسعادة، فتقدم نحوي شعباني وهمس في أذني قائلا: “أعرفُ أنك متعبٌ جدا، سأتركك ترتاح قليلاً وتذهب إلى ورقلة”، ومنحني ساعتها عطلة لمدة 04 أيام، قال لي حرفياً: “أعرف أنك توحشت الناقة” والمقصود بها خالتي ومربيتي المجاهدة الحاج الزهرة بن حود، هكذا كانت تلقب وقت الثورة، لأنها بطلة رحمها الله وخدمت الثورة بإخلاص بشهادة شعباني.
وقبل أن أغادر مقر القيادة السادسة، وأعود بالسيارة إلى مقر القيادة الرابعة، قلت له:”يا حضرة العقيد، الدراهم.. الدراهم؟” فقال لي: “عن أي دراهم تتحدث؟” قلت له: “الموجودة في الدلوين لا زالت محشية بهما” فسألني ألم تنتهِ بالرغم من تلك المصاريف لإشباع الجنود، فقلت له كلاّ، حيث لم نسحب منها سوى مرتين فقط، فقال لي حرفيا: “وأنا واش بغيتني ندير بيها؟” ونظر إلى قدميه ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال لي: “شوف مع قنتار شوف مع قنتار”، ولما رجعت بالسيارة إلى مقر القيادة الرابعة في الزعفرانية بين بوسعادة وبسكرة، بحثت عن العقيد محمد ورينة المدعو قنتار، وهو مساعد شعباني ومكلف بالشؤون المالية، فأخبرته بما حدث، وماذا قال لي شعباني، خاصة أن الأموال جمة، فانفجر في وجهي غاضباً، مرددا: “أنت دايما محصلني معاك”.
وبصراحة، كان العقيد قنتار يغار مني لأني الوحيد من الجنوب الحارس الشخصي لشعباني، ولم يفهم هذا السر إلى حد الساعة، ثم ذهب مسرعا إلى مخزن مخبزة قديمة داخل المركز من مخلفات فرنسا، وجلب منه كيس سميد كبيرا وأفرغ الأموال فيه حتى امتلأ، وأخذه إلى مكتبه حيث توجد “الخزنة”.
لم يتمكن قنتار من مساءلتي عن المصاريف بسبب ثقة العقيد شعباني في شخصي. كان يخشى أن يطرح عليّ سؤالا من هذا النوع رغم رتبته العالية، أنا متأكد أن لا قنتار ولا شعباني أخذا هذه الأموال التي كانت بمقر القيادة الرابعة.
من أخذها برأيك؟
ربما أخذها ضباط فرنسا بعد إعدام شعباني، لأنهم هم من حاكوا المؤامرة وخطّوها باسم الجهوية والتمييز بين الجهات، لقد أثاروا فتناً كبيرة قبل حادث تصادم جيشيِ الولايتين الرابعة والسادسة، لم تكن هناك أي مطالب من شعباني بالانفصال وإنما ادعاءات باطلة لا أساس لها من الصحة، حتى يجدوا مبررا لإعدامه لأنهم يغارون منه، أنا من كنت لصيقاً بالعقيد رحمه الله وأعرفه جيدا، حتى أخلاقه لم تكن تسمح له بتفتيت الثورة لا أثناءها ولا بعد الاستقلال، عكس من باعوا وطنهم لفرنسا وهو ما نشاهده اليوم بعد 52 سنة من الاستقلال، وفرنسا بالنسبة إليهم هي الهواء الذي يتنفسونه.
معلوم أن الدور المحوري الذي لعبه شعباني وقنتار والسعيد عبادو المخلصون في الولايتين الرابعة والسادسة، لم يكن بمقدور أي ثوري القيام به مع احترامي الشديد والكبير لكل المجاهدين الشرفاء والمخلصين وليس المزيفين.
لكن ما مصلحة ضباط فرنسا في إبعاد شعباني بعد الاستقلال؟
الحقيقة أن مشكلة العقيد شعباني كانت مع ضباط فرنسا الذين التحقوا بالثورة لا غير، لأنه كان يجهر بكرههم أمام الملإ، خاصة بعد مقتل العقيد سي الحواس إذ لم يعد يثق في أحد منهم مهما كانت الخدمات التي يقدمونها للثورة، ويعتبرهم متأخرين جدا عن الثورة، كان يشكك في نيتهم ويرى أنهم عملاء مندسون أرسلتهم فرنسا لضرب الثورة من الداخل، ولم يكن يثق خصوصا في بن الشريف والعربي بلخير رحمه الله، وقد اتخذ منهما موقفاً، وظل يدافع عنه حتى تمّت تصفيته بطريقة بشعة، والمؤرخون يعرفون من هو ضابط فرنسا الذي بصق في فنجان قهوة طلبه العقيد شعباني قبل تنفيذ حكم الإعدام ضده، ما جعل شعباني يرميها على وجهه، وقد رُقّي هذا الضابط إلى جنرال.
وللإشارة، فإنه بعد التحاق ضباط فرنسا بالثورة، أصبح شعباني كثير التنكر في عدة أزياء، لا سيما عندما يكون في مهمات غير رسمية وبدون جنود، واتخاذه هذا الإجراء لم يكن بدافع الخوف من أحد، بل خشية أن “يُباع” من طرفهم ويسقط في يد فرنسا حيا، لأنه يعدّ غنيمة كبيرة كونه عقيداً في جيش التحرير ومساعد سي الحواس قبل أن يتولى مسؤولية الولاية السادسة فيما بعد وهو مبحوث عنه من طرف فرنسا، وهذا ما سمعت شعباني يقوله في حلقات ضيقة جدا.
لو أراد أن يكون مليارديرا كبيرا لكان له ذلك، لأن كل الجهة كانت إلى جانبه، النساء كن يجمعن قففا من الذهب والفضة والحلي، والرجال يأتون بأموال تحمل على ظهور الدواب ولم يأخذ منها الرجل ولو وجبة عشاء، كان يردد دائما: إياكم وأن يسلّم أحدٌ منكم والدتي فلسا واحدا”.وللشهادة كانت امرأة متواضعة بطلة وتتغطى بـ “كوفيرتا” رثة لا تسلّم حتى لأفقر الفقراء، وقد حذرنا مرارا من أخذ هدايا أو مقتنيات إلى أهله في الغروس بولاية بسكرة.
كان عندما يكلفني بمهمة يصدر أوامره إلى الجميع بعدم تفتيشي، أو مساءلتي في الطريق، سواء من الجنود السياسيين أم الفدائيين أم المسبلين، وغالبا ما يكلّف الملازم الثاني محمد شنوفي، بتحضير الرخصة ووثائق تنقلي عبر المناطق ويوصيني دائما بتفادي “الحقرة” أو اعتراض المواطنين، ووجوب كثرة التحرك والتنقل وتفادي البقاء في مكان واحد، فهو شديد الدقة والذكاء رحمه الله، ولما سلمته عدة مرات رسائل من المجاهد الكبير سعيد عبادو، هذا الأخير يعرفني أشد المعرفة، كان يفرح بها شعباني ويحترمه كثيرا نظرا إلى كفاءته وكفاحه من بداية الثورة إلى نهايتها.
يقال إن شعباني نجا من محاولة اغتيال دبرها له الجنرال بلونيس؟
هي ليست محاولة اغتيال بقدر ما هي اشتباك مسلح بين جيش بلونيس وجيشنا في الولاية الرابعة، حيث كلفني شعباني بتحضير فرقة الحراسة وسيارة خضراء اللون نوع “بيجو 404” جديدة، وقال لي بالحرف الواحد: “لا ينبغي لأحد معرفة الوجهة بعد أن سبقنا حوالي 50 جنديا من خيرة الجنود المسلحين”، كنا في اتجاه منطقة ديار الشيوخ بولاية الجلفة، ومن المفترض أن يلتقى العقيد شعباني الجنرالَ بلونيس المحسوب على فرنسا، لبحث نقاطٍ لا أعرف ما هي بالتحديد، وفي الطريق باغت جيشُ بلونيس عناصرنا وأطلقوا عليهم وابلا من الرصاص بمجرد وصول سيارة شعباني، فحوّلتُ مسار المركبة إلى وجهة ثانية، ولم يُصب شعباني بأذى، ولقد طلبت منه طأطأة الرأس ففعل، حتى غادرنا منطقة الخطر، لأني كنت أنا الوحيد الذي رافقه وأقود السيارة، أنت تعرف الأمور قديما عكس ما هو معمول به حاليا، الحارس الشخصي في بعض الحالات هو من يقود المرْكبة، لا سيما لما تكون مهمة حساسة وسرية، وتمكنت من الانسحاب والعودة إلى مقر القيادة الرابعة سالمين.
لكن شعباني لم يكن يثق في أي أحد حوله بعد وقف إطلاق النار في مارس 1962؟
شعباني وضع حلقة ضيقة لحراسته من بينهم أنا شخصيا والمجاهد الطاهر العيشي وبعض الشبان الأوفياء المخلصين بصفتنا ناشطين ولدينا قدرات عالية على المواجهة وحماية الشخصيات ومدربين، حيث ارتقينا من مسؤولية إلى أخرى في الجيش، فضلا عن معرفتنا لكيفية التحرك، كان شعباني يقول: “الموت واحدة وليس اثنتين”، لكن قضية عدم الثقة ازدادت بعد مقتل الشهيد سي الحواس ثم ذراع شعباني الأيمن الشهيد سي مزغيش، ونظرا إلى احترامي للعلاقة بين شعباني ومزغيش تزوجتُ أنا أخت الشهيد مزغيش رحمه الله، وكان بطلا مغوارا، وأخته من كبار المجاهدات ولا زالت إلى جنبي وأنجبت منها أبناء ولدينا أحفاد، أتذكر لما زارني شعباني إلى ورڤلة قبل اغتياله بشهور عرض عليّ منصبا كبيرا في الولاية ورفضته، رغم أني كنت مثقفا وقادرا عليه، وقال ساعتها للوالي المجاهد صالح بوللوار: لابد أن تستفيد من “سي علي” لأنه ثقة وحارسي الشخصي وذراعي الأيمن أيضا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.