5 أكتوبر 1988.. "أحداثٌ" غيّـــرت تاريخ الجزائر

تعود ذكرى الـ5 أكتوبر ، وهي تحصي الربع قرن من الزمن، ورغم العقود مازال الجدل قائما حول ما إذا كانت الأحداث عفوية أو مدبرة، وهل حققت هذه الأحداث دلالتها المتعلقة بتجاوز النظام الأحادي وسياسة الحزب الواحد، وخلق بديل جديد لتسيير شؤون الدولة.
هذه الأحداث التي كانت بمثابة الشرارة التي أجبرت السلطة يومها على مراجعة قناعاتها في التعاطي مع العديد من المجالات تتصدرها الإعلامية والسياسية، ورغم أن هذا التاريخ سجل ميلاد التعددية الحزبية والإعلامية، وحتى الديمقراطية لدى البعض، إلا أنه مازال يثير نقاشا واسعا بخصوص عوامل وفواعل هذه الأحداث، وهل حقق الشباب الذي خرج أو أخرج في ذلك اليوم أهدافه، هذه الأحداث التي كان وقودها الناس والوضع المعيشي المتردي والبطالة المستشرية والاقتصاد المنهار والإقصاء والحرمان والبيروقراطية، يؤكد رئيس الحكومة أنذاك عبد الحميد الابراهيمي أنها أحداث مدبرة وليست عفوية، وتمت على درجة عالية في التنسيق بين الزمن والوقائع، إلا أنه لا يجرؤ لحد الساعة على كشف أسماء وتحديد هوية الفاعلين الحقيقيين لهذه الأحداث. 
"الشروق اليومي" تعود في الذكرى الـ25 لأحداث أكتوبر، وبعد ربع قرن من الزمن، لتقف عند الأحداث التي أضحت مرجعية بعض السياسيين عند مقارنة وضع الجزائر بأوضاع الدول العربية التي انفجر شارعها بمجموعة من المطالب الشعبية، بسلسلة من الشهادات لشخصيات ورجال عايشوا الفترة وآخرين كانوا أرقاما فاعلة في معادلة ذلك اليوم. 
فضلنا أن نبدأ هذه السلسلة بوثيقة تاريخية ثمينة حصلت عليها الشروق بصفة حصرية، تكشف لأول مرة وجهة نظر ومطالب شخصيات من الأوزان الثقيلة لعبت أدوارا في التاريخ السياسي للجزائر من أحداث الـ5 أكتوبر، سلمت للرئيس الشاذلي بن جديد رسالة حملت مجموعة من المطالب، يتقدمهم رئيس الجمهورية الحالي عبد العزيز بوتفليقة، ورئيس الحكومة الأسبق بلعيد عبد السلام، وعضو المجلس الأعلى للدولة سابقا علي هارون، وقائد أركان الجيش بعد الاستقلال الطاهر زبيري، فهل مازال هؤلاء يؤمنون بنفس القناعات السياسية التي عبروا عنها يومها؟ أم أن الظرف تغير فتغيرت معه مداخلات النظام السياسي، وغير مخرجات هذا النظام حسب نظرية دافيد هيستون؟   
مطالب مهدت لميلاد الديمقراطية ومباشرة إصلاحات أنهت عهد الحزب الواحد  
الموقعون للشاذلي: لا تعذبوا أبناءنا 
 لأن كل حقبة زمنية لها رجالتها، سجلت أحداث أكتوبر 88، أسماء عديدة، من المستحيل أن تخوض في القضية أو الأحداث، دون أن تقف عندها وتذكر إيجابياتها أو مسائها، أهمها اسم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، ومحمد الشريف مساعدية الذي كان يقود حزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الواحد والحاكم قبل 88، ومولود حمروش والعربي بلخير الذي كان يدير شؤون ديوان الرئاسة، قبل أن تسلمه الأحداث وزارة الداخلية، ويضاف لهذه الأسماء اسم اللواء خالد نزار أبرز الفاعلين في أحداث أكتوبر، هذه الأحداث التي أوكلته مهمة حفظ الأمن بالجزائر، تعتبر البداية السياسية لهذا العسكري، المتهم من قبل البعض أنه من أمر بإطلاق النار على المتظاهرين يوم الـ5 أكتوبر  .
بعيدا عن هذه الأسماء، تكشف الوثيقة التاريخية التي بحوزة "الشروق" أن شخصيات سياسية وتاريخية أخرى لم تقف مكتوفة الأيدي رغم إحالتها على "التقاعد" وعزلها عن المسؤوليات، إثر خلافة الرئيس الشاذلي بن جديد الراحل هواري بومدين، وتحركت هذه الأسماء بعد 18 يوما من الأحداث، وصاغت تصريحا جاء في شقين: الشق الأول كان عبارة عن تقييم للوضع العام للبلاد، أما الشق الثاني فكان بمثابة ورقة طريق للخروج من الأزمة، ورغم أن الوثيقة وقعتها 18 شخصية يتقدمهم الرئيس بوتفليقة، فقد تولت ثلاثة أسماء بقيادة الطاهر زبيري تسليم الوثيقة للشاذلي بن جديد لدى استقبالهم وطالبوا منذ ربع قرن مضى بفسح المجال أمام الشرعية الشعبية، وواجهه يومها بحقيقة أن الشرعية التاريخية المنهكة بمرور السنين آن لها أن تفتح المجال أمام الشرعية الجديدة الممثلة في الشرعية الشعبية.
ويبدو من خلال الوثيقة أن ظهور الشاذلي بن جديد على التلفزيون في 10 أكتوبر، ودعوته المواطنين للتعقل، ووعدهم بغد أفضل، وبإصلاحات في جميع المجالات السياسية والاقتصادية، لم تقنع أصحاب التصريح رغم الهدوء الذي عاد بعد أن فهم الجزائريون أن ثمة تلميحا لتغيير في نظام الحكم، وأن الجزائر مقبلة على الانفتاح، خاصة بعد التضحية بشريف مساعدية وإزاحته من على رأس جبهة التحرير الوطني واستخلافه بعبد الحميد مهري، ورغم تفاعل الشاذلي السريع وحديثه عن دستور جديد أقر تعددية سياسية وإعلامية، وفتح مجال النشاط واسعا لكل التيارات السياسية وحرية التعبير إلى جانب فتح المجال الاقتصادي للقطاع الخاص، إلا أن الزبيري وبن طوبال انتقلا إلى الرئاسة وقابلا الشاذلي وسلماه الرسالة واستلما وصل تسليمها.
ولم تتورع الشخصيات الـ18 الموقعة على الوثيقة، عن وصف أحداث 5 أكتوبر بالخطيرة والأليمة، ويبدو أن الشعور بالإقصاء كان قد تمكن من الموقعين، فعمدوا إلى تذكير الشاذلي بصفتهم مناضلين سابقين في حرب التحرير، وواجب الوفاء لذكرى شهداء ومبادئ نوفمبر، الذي اعتبره هؤلاء ضميرهم الذي يحتم عليهم المساهمة في الحوار الوطني، واستهجنت الشخصيات الـ18 التعذيب الذي مورس، والدموية التي تم التعامل بها مع المتظاهرين، وطالب هؤلاء صراحة من الشاذلي اقتلاع أساليب التعذيب والإقلاع عنها مع كشف ومعاقبة المسؤولين عن ذلك وجعلهم عبرة لمن يعتبر. ويبدو من مطلب هؤلاء أنهم كانوا يسلمون بالطرح القائل أن اللواء خالد نزار من أصدر أوامر باستخدام العنف وتعذيب الشباب المتظاهر.
كما قدم الموقعون ومنهم الرئيس بوتفليقة يومها، خلاصة عن الوضع العام في البلاد مفادها تردي وتدهور المناخ الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والسياسي للبلاد وهشاشة المؤسسات التي جعلتها تفشل في التصدي للحراك الاجتماعي الذي حصل يومها.
وحذر أصحاب الوثيقة، الحامل جميعهم صفة قيادات جبهة التحرير الوطني، قبل الاستقلال وبعده، من خطورة الوضع والمستقبل المبهم الذي ينتظر الأفلان، الذي على حد تعبيرهم كان يفقد في كل أزمة جزءا هاما من إطاراته الحقيقية وشرعيته الأصلية لدرجة أنه لم يتمكن من دمج القوى الجديدة التي ظهرت في أوساط الشباب ولا استيعاب التحولات والتطورات التي شهدها المجتمع الجزائري.
كما تضمنت الوثيقة إلى جانب عرض الحال الذي قدمته الشخصيات الـ18، مجموعة من المقترحات، مازالت ترددها الطبقة السياسية في الجزائر، رغم تغير المواقع التي جعلت أحد المطالبين أمس الممثل في شخص الرئيس بوتفليقة مطالب بالتجسيد وسماع صوت لمن كان صوته بالأمس، ومن بين ما طلبه بوتفليقة وزبيري وبن طوبال وعلي هارون وبلعيد عبد السلام إدراج إصلاحات أساسية والتأسيس لحياة ديمقراطية، تسمح للمواطنين الجزائريين الاختيار بكل حرية ممثليهم.
وكان يعتقد يومها أن ذلك لن يتسنى سوى بتوفير جميع شروط الحوار الوطني يتصدرها فتح المجال أمام الجميع لتحقيق الإجماع، وعقد ندوة وطنية تجمع ممثلي جميع القوى الحية، لبلورة بدون شروط مسبقة من أي طرف في آجال ستة أشهر الإصلاحات المؤسساتية التي تنتظرها الأمة، وتعرض لاستفتاء شعبي، مع تأجيل الانتخابات الرئاسية وجميع الإجراءات وإجرائها في إطار المؤسسات المنبثقة عن الإصلاحات.
واشترط أصحاب الوثيقة ضمان احترام جميع الحريات الديمقراطية، كحرية التجمع، وحرية التعبير، وإنشاء الجمعيات خلال المرحلة الانتقالية التي اقترحوها، وعند الوقوف عند هذه المطالب التي بلغت الربع قرن ننتهي إلى مجموعة من الأسئلة: هل حقق أكتوبر 88 أهدافه؟ هل أصغى الشاذلي إلى الشخصيات الـ18؟ وهل مازالت الشخصيات التي وقعت من الأحياء ومن بينها بوتفليقة على قناعاتها السياسية؟ ولماذا مازالت ورشة الإصلاح السياسي مفتوحة رغم مرور السنين؟ وما مدى حقيقة وصدقية التقارير التي تنظر إلى الحريات الفردية والجماعية وحرية التعبير بعين عدم الرضا؟
الترجمة الحرفية للوثيقة
 "من حقنا أن نعرف حقيقة العمليات الممارسة ضد أبنائنا ومعاقبة المتورطين في التعذيب"
 تأجيل الانتخابات الرئاسية وعرض الإصلاحات على الاستفتاء الشعبي والدخول في مرحلة انتقالية
 بعد الأحداث الخطيرة والأليمة التي عرفتها الجزائر للتو وبصفتنا مناضلين سابقين في حرب التحرير ووفاءنا لذاكرة الشهداء ومبادئ الفاتح نوفمبر 1954، تفرض علينا المساهمة في الحوار الوطني الذي من الحتمية اللجوء إليه،
ننحني بتواضع أمام ذكرى جميع الضحايا نندد وبسخط شديد بالتعذيب الممارس خلال وبعد الأيام الدموية التي عرفتها الجزائر، نحن الذين عرفنا فزع وألم تعذيب الآلة الاستعمارية، خلال الثورة التحريرية، من حقنا أن نعرف حقيقة العمليات الممارسة ضد أبنائنا ونصر، كما نلح على اجتثاث جميع أساليب التعذيب في البلاد ومعاقبة الواقفين وراء هذا التعذيب، لنجعل من هؤلاء عبرة لمن يعتبر.
لا نستطيع أن نغض الطرف، ونلتزم الصمت ولا نعبر عن إنشغالنا العميق أمام تردي وتدهور المناخ الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والسياسي الذي وصلت إليه المؤسسات الحالية، وطريقة ونهج عملها التي لم تمكنها من التصدي للانفجار الاجتماعي في الـ5 أكتوبر.
حزب جبهة التحرير الوطني، الذي جند الشعب بجميع مكوناته حول برنامجه التحرري، وقاده إلى غاية الاستقلال الوطني، بفضل حشده وتجميع الموارد، حول القوى الحية للبلاد، يفقد في كل أزمة جزءا هاما من إطاراته الحقيقية وشرعيته الأصلية، لم يتمكن لا من دمج القوى الجديدة التي ظهرت في أوساط الشباب، ولا استيعاب التحولات والتطورات التي شهدها المجتمع الجزائري، وبالتالي فما على الشرعية التاريخية المنهكة بمرور السنين إلا أن تفتح المجال أمام الشرعية الجديدة الممثلة في الشرعية الشعبية.
وعليه نطالب:
1- استخلاص الدروس من هذه الأيام المأساوية، لتجنيب البلاد أحداثا مأساوية جديدة.
2- المبادرة دون تحديد آجال بإدراج الإصلاحات الأساسية التي يفرضها الوضع الراهن، والتي يجب أن تؤسس لحياة ديمقراطية، وتسمح للمواطنين الجزائريين الاختيار بكل حرية ممثليهم.
3- ولتحقيق هذه الأهداف، يجب أن تجتمع جميع شروط الحوار الوطني يتصدرها فتح المجال أمام الجميع لتحقيق الإجماع المبني على توافق جميع القوى الحية للأمة.
بالمناسبة، نطالب بندوة وطنية تجمع ممثلي جميع القوى الحية، تعقد لبلورة بدون شروط مسبقة من أي طرف في آجال ستة أشهر الإصلاحات المؤسساتية التي تنتظرها الأمة، والتي ستعرض لاستفتاء شعبي، هذه الخطوة مع تأجيل الانتخابات الرئاسية، وجميع الإجراءات وجعلها في إطار المؤسسات المنبثقة عن الإصلاحات، وخلال المرحلة الانتقالية يجب ضمان احترام جميع الحريات الديمقراطية، كحرية التجمع، وحرية التعبير وإنشاء الجمعيات. 
قائمة الشخصيات الموقعة على الوثيقة بالإسم والصفة
- بلعيد عبد السلام، عضو سابق بالمكتب السياسي لحزب جبهة التحرير ووزير سابق.
- لخضر بن طوبال، عضو سابق في لجنة التنسيق والتنفيذ بمجلس الثورة وعضو سابق في الحكومة المؤقتة.
- الطاهر زبيري، عضو سابق في المجلس الوطني للثورة، وقائد أركان الجيش وعضو سابق في المكتب السياسي ومجلس الثورة. 
- رضا مالك، وزير سابق.
- محمد علي هارون، عضو سابق للمجلس الوطني للثورة، وعضو سابق لفيدرالية جبهة التحرير في فرنسا.
- مصطفى لشرف، عضو سابق في المجلس الوطني للثورة ووزير سابق.
- جيلالي عفان عضو مكتب سياسي.
- شايد حمود المدعو عبد الرحمان، ضابط سام في جيش التحرير.
- الشريف بلقاسم، عضو سابق في مجلس الثورة ووزير سابق.    
- فدال أحمد المدعو حميمي، عضو سابق في المجلس الوطني للثورة.
- ڤنز محمود، وزير سابق.
- لمين خان، عضو سابق في المجلس الوطني للثورة ووزير سابق ونائب سكريتر الأمم المتحدة.
- السعيد محمدي، عضو الحكومة المؤقتة وعضو سابق للمكتب السياسي ونائب سابق لرئيس المجلس وعضو مجلس الثورة.
- رشيد مستغانمي، رئيس سابق للجمعية الوطنية للمجاهدين.
- مولاي ابراهيم، المدعو عبد الوهاب، عضو سابق للمجلس الوطني للثورة وعضو المجلس الوطني للمجاهدين.
- سعدي سليم عضو اللجنة المركزية وعضو سابق.
- سوفي لحسن وزير سابق.
هزت المجتمع وزلزلت أركان السلطة
5 أكتوبر 1988.. "أحداثٌ" غيّـــرت تاريخ الجزائر
في 5 أكتوبر 1988، وقعت مظاهراتٌ عنيفة غير مسبوقة في تاريخ الجزائر والمنطقة العربية ككل، كانت "ربيعاً جزائريًّا" حقيقيا سبق إليه شبابُ باب الوادي وبلكور وباقي مناطق الجزائر العاصمة، ثم سكان مدن أخرى عديدة في البلد، ما يُسمى "الربيع العربي" بأزيد من 22 سنة كاملة. آلاف الشبان ثاروا على الأوضاع المعيشية الخانقة السائدة آنذاك؛ حيث تفاقمت البطالة وأزمة السكن وشهدت المواد ذات الاستهلاك الواسع ندرة حادة.
كما استشرت المحسوبية و"المعريفة" و"الحقرة" واستعمال النفوذ، وتفشى الفساد مستفيدا من نظام الحزب الواحد القامع للحريات الديمقراطية. وحينما خرج الشباب للاحتجاج على هذه الأوضاع واجهتهم السلطة بالغازات المسيلة للدموع، ثم انزلق الوضع، فواجهتهم بالرصاص الحي بذريعة استعادة زمام الأمور.. فكانت الحصيلة ثقيلة، وتجاوز عدد القتلى 500 بحسب تقديرات مستقلة، بينما أصيب الآلاف بجروح متفاوتة وبعضهم لا يزال يعاني آثارها إلى الآن.
"الشروق اليومي" ارتأت تسليط الضوء على تلك المظاهرات الصاخبة في حلقات عديدة قصد الإجابة عن تساؤلات عالقة ومنها: من كان يقف وراء تلك "الأحداث" ولماذا؟ هل كانت "ربيعا جزائريا" أم مجرد أحداث عابرة لإفراغ الغضب المكبوت؟ وإذا كان "ربيعا".. فهل حقق أهدافه في إقامة الديمقراطية والعدالة ودولة القانون والحريات؟ أم أن دار لقمان تبقى على حالها؟
هكذا أشعلوها من "باب الواد الشهداء" إلى  "مونوبري" بلكور..
شهاداتٌ مثيرة لمشاركين في مظاهرات 5 أكتوبر 1988
...لم يكن أي شيء ينبئ  بحركة غير عادية.. لقد زاد تذمرنا وأصبحت أبسط الأشياء نبحث عنها ولا نجدها.. أصبحنا نضطر إلى الوقوف ساعتين حتى "نشتري صابون حجرة"، الأمر أصبح لا يطاق، لقد كنا نعيش أزمة ندرة حقيقية..
 سرعان ما أصبح الشعب متحررا من الخوف.. لقد أصبحت سيارات الشرطة هدفا للحجارة وكل ما يرمز للدولة والنظام... لقد اكتفى أعوان الأمن بالتمركز في مواقعهم.. كانوا في موقع المتفرج.
 أغلقت المحل وسرعان ما أصبح أفراد الجيش يوجهون رشاشاتهم قِبل وجوه المارة.. بعضهم سقط وتهاوى وآخرون داستهم الأقدام بعد أن خنقتهم الغازات المسيلة للدموع.. عندما استنــزِفت أسواق الفلاح، أصبح للمتظاهرين لغة أخرى.. تعالت صيحات التنديد بالنظام وأصبحت الشعارات تدوي في الأزقة.. وفي مقدمتها "بومدين حقرونا.. بومدين خدعونا".. وقتها لا أحد امتنع عن أخذ ولو علبة كبريت إلى بيته وكأنها حرب وانتهت باقتسام "غنائم" سوق الفلاح..
.. وصل متأخرا ومع ذلك استطاع أن يأخذ غنيمته من أحداث الخامس أكتوبر.. "صابون حجرة" وعلبة "قوفريط"، وقارورة زيت، وعندما همّ بالخروج كانت رائحة الغازات المسيلة للدموع تحاصر "مونوبري" بلكور. يسارع إلى أزقة "مارشي (12)".. زوجته تطل من الشرفة وهي ترمي لابن الجيران آخر قارورة خل.. إنها بعض ما ميّز أحداث الخامس أكتوبر 1988.. تابعوا معنا.
..لا يزال محله بالقرب من "جامع اليهود" كما يحلو لسكان باب الوادي تسميته، انحنى ظهره وأكل الشيب شعره وأصبحت العصا عشيقته الوحيدة في سن 43 عاما، بعد أن صدمته في أحداث الخامس أكتوبر سيارة إسعاف كانت محملة بجثث الموتى والجرحى في طريقها إلى مستشفى مصطفى باشا..
يتحدث قائلا: كانت ملاعب كرة القدم هي متنفسنا الوحيد.. لقد كانت هتافاتنا تعبيرا صارخا عن مكبوتاتنا.. كنا نغني لفريقنا "المولودية".. بمرور الوقت وتفاقم الندرة تولدت مشاكل اجتماعية، والدي وقتها لم يكن يطيقني بلا عمل.. أذكر أنه كل يوم صباح وعندما يعود فارغ القفة، يصب جام غضبه علي ويصرخ في وجهي: "روح تخدم روح دير لاشان...".
 ....جيبولنا الصابون
يتنفس محمد.. ثم يكمل حكايته قائلا:"..لهذا عندما كنا ندخل ميادين كرة القدم كنا نهتف بشعارات اجتماعية... جبولنا الصابون... أعطونا الباسبور.. وهي الشعارات نفسها التي رددها مناصرو المولودية في أحداث الخامس أكتوبر.. كان الأمر بالنسبة لنا كشغب ملاعب ثم تطور وانزلق إلى هاوية خطيرة.. اتجهنا مباشرة إلى تكسير كل ما له علاقة بالنظام والدولة.
في صباح الخامس من أكتوبر كنت رفقة "موح السطايفي" رحمة الله عليه والذي توفي بعد أحداث الخامس أكتوبر في حادث مرور مميت، كنا نتكئ على جدار إحدى الثانويات "... يبتسم ثم يضيف قائلا: اسمحي لي أختي لقد كنا نترقب خروج بنات الثانوية.. كغيرنا من الشبان..".
بدأت تصل إلى أسماعنا ممن كانوا يمرون علينا.. "اجري لسوق الفلاح".. وطبعا قادنا الحماس إلى "مونوبري" بلكور كنا بالقرب من الثانوية هناك، لقد طالت أيادينا كل المواد الغذائية، "القهوة، السكر، الزيت، كنا نأخذ حصصا ونخبئها في أقبية العمارات ونرمي عليها الكرتون، ثم نعود مجددا لنطال كل ما يؤكل...".
الشاذلي"أساسان"
..كان ولا يزال"كوردونيي" الحومة... غير بعيد عن مسجد فارس أو كما يلقبه "أولاد باب الواد" جامع اليهود.. يتحدث عن أحداث الخامس من أكتوبر قائلا: "...لم يكن أي شيء ينبئ  بحركة غير عادية.. لقد زاد تذمرنا وأصبحت أبسط الأشياء نبحث عنها ولا نجدها.. أصبحنا نضطر للوقوف ساعتين حتى "نشتري صابون" حجرة، الأمر أصبح لا يطاق، لقد كنا نعيش أزمة ندرة حقيقية"..
كنت وقتها في حي حسين داي، أستعد لركوب القطار باتجاه "الثنية".. سرعان ما بدأت المناوشات بدأت بتحطيم زجاج حافلات نقل "أرستيا" آنذاك، لم نكن ندري ماذا يحدث من حولنا، الحافلات كانت تمر دون توقف، أعترف أني نهيت بعض الشبان عن التكسير وكان وقتها أحد الشبان ينهرني قائلا:"... احنا ملقيناش واش ناكلو..".
ولأول مرة نسمع بعض الشبان يرددون شعار..."الشاذلي أساسان"... فجأة أصبحت الإحتجاجات في باش جراح، الرويسو، حسين داي، بلكور، وبدأنا نسمع عن اقتحامات أسواق الفلاح وكأنها كانت مظاهرات ضد أسواق الفلاح...
وسرعان ما أصبح الشعب متحررا من الخوف.. لقد أصبحت سيارات الشرطة هدفا للحجارة، وكل ما يرمز للدولة والنظام... لقد اكتفى أعوان الأمن بالتمركز في مواقعهم.. كانوا في موقع المتفرج.
...بلكور وهجمات "المونوبري"
 نورالدين كان وقتها عمره 18 عاما، وهو الآن في الـ 43 من العمر.. لا يزال يذكر أحداث الخامس أكتوبر، تنتابه نوبة ضحك وهو يحكي لي كيف أن أول ما أخذه من "مونوبري  بلكور".. قارورة زيت وعلبة كوفريط.. لأنه جاء متأخرا يتحدث قائلا: "... وصلت في الساعة الرابعة والنصف إلى بلكور.. لقد سمعت قبلها بأن الحي يحترق والناس تهاجم "المونوبري" كل حافلات النقل كانت متوقفة.. لم أفهم شيئاً وأنا أشاهد أصدقائي وهم ملثمون لقد كانت رائحة الغازات المسيلة للدموع تعم المكان والفوضى وإنذارات شاحنات الشرطة.. ولم أجد غير قميصي، لا أزال أذكره نزعته ووضعته على أنفي وفمي.. ثم أخبرني أحدهم قائلا.."روح للدار جيب الخل اليوم ليلتنا...".
لقد كان الشعب يخرج عن بكرة أبيه.. كان الساقط أكثر من الواقف.. القنابل المسيلة للدموع بدأ تأثيرها يصل إلى شارع مارشي (12) وشارع نصيرة نونو..
عمي العربي صاحب "محل الڤرنطيطة" بحي بلكور العتيق بالكاد راح يتحدث معنا مكتفيا بهذه العبارة ".. وشكون معلابالوش واش صرا في 5 أكتوبر؟"... ثم يضيف قائلا: "احمدو ربي معشتوش في زمن طوابير الطماطم والسكر.. نعم شاركنا في الإحتجاجات لأننا لم نجد ما نأكله.. سرقنا حتى علب الكبريت، لأننا كنا نضطر للوقوف في طوابير طويلة لشرائها.. سرقنا الزيت والسكر والقهوة ولست نادما على ذلك".
"السونترال".. تحت الحصار
"محي الدين"، مواطن يبلغ الآن من العمر 46 عاما، كان وقتها عمرُه 25 عاما، كان يشتغل في محطة للتزويد بالوقود، بباب الوادي في ذلك الوقت. في الخامس أكتوبر كل شيء كان محترقا وكأنها حرب، رائحة الغازات والقنابل المسيلة للدموع تصل شرفات أعالي العمارات. كانت النسوة يرميننا من الشرفات بقارورات "الخل"، وملابس مبللة بالخل.. حتى النسوة شاركن برمي أفراد الشرطة من  شرفات العمارات بالنباتات التي كانت تزين الشرفات فأصبحت وسيلة للهجوم.
لقد كانت الشعارات تدوي في المكان رغم الدخان الكثيف وإلى غاية ساعات متأخرة كنا نردد: "يا الشاذلي يا بن جديد.. الجزائر ولات بيضاء.. اللي ما لبسش ستانسميث يستنى قرّة (حرب) جديدة".
وبعد أن انتهى رجال الشرطة من التفرج، أصبحنا نسمع صوت الرصاص، كان مصدره المديرية العامة للأمن الوطني  ومن كثافة إطلاق الرصاص أصبح الأمر وكأنه يتعلق بحرب...
يتوقف ثم يكمل قائلا: لقد كان كمٌّ هائل من الأوراق مبعثراً.. حرائق هنا وهناك.. رماد في كل مكان، لقد كنا ندوس على وثائق دولة وأختام وصور نراها ممزقة ومحروقة في الشوارع.. لقد كان أفراد الشرطة يفرضون طوقا أمنيا على السونترال"..
فجأة أصبحت عربات الجيش تطوق العاصمة، لا سيما بمحاذاة "السونترال". عناصر الأمن أصبحت منتشرة في كل الشوارع... وقتها كنت أساعد "عمي العربي" في بيع "اللوبيا". أغلقت المحل وسرعان ما أصبح أفراد الجيش يوجهون رشاشاتهم قِبل وجوه المارة.. بعضهم سقط وتهاوى وآخرون داستهم الأقدام بعد أن خنقتهم الغازات المسيلة للدموع.. عندما استنــزفت أسواق الفلاح، أصبح للمتظاهرين لغة أخرى.. تعالت صيحات التنديد بالنظام وأصبحت الشعارات تدوي في الأزقة.. في مقدمتها "بومدين حقرونا.. بومدين خدعونا"..
وقتها لا أحد امتنع عن أخذ ولو علبة كبريت إلى بيته وكأنها حرب وانتهت باقتسام "غنائم" سوق الفلاح..
رائحة الدم والجثث
يقول أحدهم: لا يمكنك أن تتصور كمية الدماء التي كانت في كل مكان، وجثث القتلى مغطاة، لم تتسع سيارات الإسعاف لنقلها جميعا، فيما كان رجال الحماية المدنية يقومون بتنظيف الفضاء من آثار الدماء.. عويل النسوة كان يُسمع في العديد من البيوت. وهنا سمعنا لأول مرة شعار: باب الواد الشهداء".
بعد 25 عاما عدنا إلى بلكور وباب الوادي.. تحسنت ظروف المعيشة وأصبحت القهوة والسكر والطماطم متوفرة في كل مكان، وانتهى زمن الندرة.. لكن هل غير أو تغير شيء من حياة من شاركوا في تلك المظاهرات؟... عمي العربي أصبح يعود إلى بيته بقفته وهي محملة بـ"القضيان"، لكن نظراته لا تزال تحكي الأسى وكأنه يريد أن يقول الشيء الكثير...
محمد، عاش شبابه بين القنابل المسيلة للدموع، بين شبح الإرهاب والخوف، عاشه بين سنفونية الرصاص والبارود.. 25 عاما من عمره، 10 سنوات منها قضاها تحت شبح الإرهاب...
خالتي حليمة، بعد 25 عاما لا تزال تسكن نفس الشقة التي ورثتها عن المستعمر الفرنسي بحي باب الوادي... تعيش رفقة كنتها زينب... 25 عاما ولم يتغير حالها..
كثيرٌ من أبناء باب الوادي وساحة الشهداء وبلكور وباش جراح والرويسو... شاركوا في مظاهرات واحتجاجات الخامس من أكتوبر.. سرقوا القهوة والسكر وآخرون لم نجدهم لمحاورتهم لأنهم بكل بساطة تحت التراب.. قتلوا ربما لأنهم سرقوا علبة طماطم فوجه إليهم رصاص أنهى حياتهم.. ماذا بعد رُبع قرن؟ سؤال لم يجب عنه من بقوا على قيد الحياة وأخذ سرّه من هم تحت التراب...
نقلا عن الشروق اليومي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.