في الذكرى الأربعين لرحيل مصالي الحاج : ليلة عودة الزعيم .

ليلة عودة.. “الزعيم” 
محافظ شرطة تلمسان رفض وضع علم الجزائر على نعش مصمّمه
 أربعون سنة تمر على وفاة زعيم حزب الشعب الجزائري ومؤسس نجم شمال إفريقيا، والحركة الوطنية الجزائرية، أحمد مصالي، الشهير بمصالي الحاج، المتوفي في الثالث من شهر جوان سنة 1974 بأرض المنفى في أحد مستشفيات باريس بفرنسا. وقد عاد المناضل الكبير وهو من يصفه بعض المؤرخين بـ«مؤسس الحركة الوطنية الاستقلالية” و«زعيمها”، عاد إلى مسقط رأسه تلمسان، محمولا على نعش، رفض محافظ شرطة المدينة آنذاك أن يوشّح جثمانه بعلم جزائر الاستقلال. العلم الذي صمّمه مصالي الحاج بنفسه، وخاطته زوجته المناضلة إيملي بيسكون؛ عاد بعد صراع طويل لأفراد عائلته مع أجهزة نظام الرئيس الراحل هواري بومدين، بين باريس والجزائر.
  تمّ الترخيص بعودة الجثمان، في أيام وليال ثلاث، حبلى بالذكريات والأحداث، انتهت بتشييعه في جو جنائزي مهيب، تستّرت عليه سلطة الحكم ووسائل إعلامها منتصف السبعينيات من القرن الماضي.. “الخبر” تعود بقرائها أربعين سنة إلى الخلف، وتستطلع شهادات من عايشوا ليلة عودة.. “الزعيم”. 
لحظات الوداع والعودة
“في مستشفى بالضاحية الباريسية، كان يرقد مصالي الحاج للعلاج من مرض السرطان الذي أنهك جسده، بعدما أنهكته خمسون سنة من النضال في السجون والمعتقلات والمنفى، في سبيل المطالبة باستقلال وطنه الجزائر. كان يعلم أن نهايته اقتربت، ولكنه لم يكن يخش الموت..”؛ هكذا وصفت ابنته جنينة اللحظات الأخيرة لحياة مصالي في المستشفى، في كتابها “حياة مشتركة مع والدي مصالي الحاج”. كان كل مساء حين تزوره بالمستشفى يطلب منها تحضير ورقة وقلم لكتابة وتدوين الأحداث التاريخية التي صنعها وعايشها. فمصالي بعد استقلال الجزائر كان منشغلا جدا بقضايا التاريخ والحداثة والتعددية السياسية التي كان يرفضها نظام الحزب الواحد في الجزائر. وجاءت لحظة الوداع، ظهيرة الأحد الثالث من شهر جوان 1974؛ أغلق الزعيم عيناه وأفضى روحه إلى خالقه.. بسرعة توجّه زوج ابنته، أنور بن قلفاط، إلى أقرب مكتب لوكالة الأنباء الفرنسية ليحرر خبر نعي الفقيد، وفي الساعة الرابعة زوالا كانت إذاعة “أوروبا1” أول وسيلة إعلام تذيع خبر الوفاة، لينتشر الخبر في اليوم الموالي بعد نشره بالبنط العريض في كبريات الصحف الفرنسية، مثل “لوموند” و«لوفيغارو”، ولحظات قليلة أيضا بعد انتشار الخبر كان المناضل والمؤرخ الجزائري الكبير محمد حربي أول شخصية جزائرية تقف على جثمان مصالي الحاج بالمستشفى الباريسي، وكان مرفوقا بمحامي وصديق مصالي القديم، دانيال قيران، وبسرعة أيضا انتظم أفراد العائلة لتحضير إجراءات نقل النعش نحو الجزائر وتلمسان للدفن تحت ظلال الصنوبر بمقبرة الشيخ السنوسي. 
استغلت جنينة مصالي، رفقة زوجها أنور بن قلفاط، علاقات شخصية للقاء سفير الجزائر بباريس آنذاك، محمد بجاوي، وأخبراه برغبة العائلة في تنفيذ وصية الفقيد ودفنه بتلمسان، فما كان على بجاوي سوى إخبارهم بأنه سينقل هذه الرغبة إلى الرئيس هواري بومدين وينتظر الردّ. مرّ يومان طويلان والسفارة لم تتصل بالعائلة ورخصة الدفن ونقل الجثمان لم تصدر بعد. وازداد الاحتقان قرب مربع المقبرة الإسلامية في الضاحية الباريسية، وارتفع عدد أنصار مصالي المحيطين بالنعش. وصلت أخبار الوفاة والعراقيل إلى مسقط رأسه تلمسان. الحاج إسماعيل مواطن بسيط، يمتهن الحلاقة في درب عتيق بعاصمة الزيانيين، يقول لـ«الخبر”: “اطّلع المغتربون على خبر الوفاة في وسائل الإعلام الفرنسية وأخبرونا بالهاتف. كان عمري 26 سنة وحضرت الجنازة. أذكر أن بعض المناضلين، مثل حمدان لنصاري وإبراهيم بن اشنهو ومصطفى العزوني، كانوا في اجتماعات مطوّلة، وكانوا يفكّرون في حركة احتجاجية في حال رفض الترخيص بدخول الجثمان”. وفي فرنسا بدأت تنتشر إشاعة إمكانية دفن مصالي بالمغرب، وهو الذي عاش هناك رفقة عائلته قرابة عشر سنوات.. ازداد الجو احتقانا، وبدأ الشك يتسرب إلى قلوب الأنصار في الجزائر وفرنسا، ليرفع زوج جنينة سماعة الهاتف من محيط المقبرة في الضاحية الباريسية ويتصل بالسفارة ليقول لأحد الموظفين صارخا: “أخبر السفير أن جموعا كبيرة من الجزائريين والفرنسيين ستتوجه نحو سفارة الجزائر بباريس لانتزاع رخصة دخول الجثمان إلى أرض الوطن”، وبعد نصف ساعة، كانت الرخصة حاضرة بين أيدي أفراد العائلة في مقبرة بوبينييه في باريس.
في البيت الذي احتضن جثمان وجنازة مصالي الحاج
بيت تلمساني عتيق وعريق، عراقة حاضرة بني زيان، تزيّنه شجرة ليمون فارهة وأزهار أندلسية حمراء، في حي الفخارين بقلب مدينة تلمسان؛ توجّهنا إلى دار الراحل الحاج العربي حميدو رفقة حفيده زكرياء حميدو، ابن الراحل والمناضل مراد حميدو. البيت الذي احتضن مصالي الحاج حيا وميتا، وكانت لصاحبه الراحل، العربي حميدو، الشجاعة لمواجهة نظام الحزب الواحد، مقررا أن تكون الجنازة في بيته وأن يبيت النعش هناك بعد وصوله من مطار السانيا وهران. في هذا البيت نستشعر عبق التاريخ يتسلل عبر غرفه وشرفاته، ودهليزه الذي كان يأوي إليه الثوار والمناضلون في قلب المدينة بعيدا عن أعين عسكر وشرطة فرنسا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. كيف لا؟ وهو البيت الذي احتضن محمد بوضياف وأحمد بن بلة ومحمد خيذر ورابح بيطاط والعربي بن مهيدي والإخوة تشوار، وعبد الحفيظ بوصوف مكث فيه أربع سنوات، وحسين آيت أحمد وحسين لحول، وغيرهم من مناضلي الحركة الوطنية، قبل “فتنة الانقسام”.. هنا تاريخ يتسلل عبر أرشيف كبير من الصور والوثائق المرتبطة بحياة مصالي الحاج وبجنازته المهيبة في هذا البيت العريق.
الشرطة تسبق جثمان مصالي إلى دار العربي حميدو
ليلة وصول جثمان الراحل مصالي الحاج إلى أرض الوطن، بعد صراع دام ثلاثة أيام مع سفارة الجزائر بباريس، وكان وقتها محمد بجاوي سفيرا لنظام الراحل هواري بومدين بفرنسا، والذي كان يرفض الترخيص لـ«إدخال جثمان شخص لا يحمل أي وثيقة هوية تثبت جزائريته”، وهي قصة معروفة أكدها لنا، في تصريح وحوار سابق نشرته “الخبر”، الدكتور شكيب قلفاط، حفيد مصالي الحاج من ابنته الوحيدة جنينة المقيمة حاليا بكندا، وهو الذي كان ملازما لجدّه الحاج مصالي في منفاه، حين قال: “جدي توفي وهو لا يحوز أي وثيقة تثبت جزائريته؛ لا جواز سفر، ولا بطاقة تعريف وطنية. نظام بومدين كان يخاف منه، حيا وميتا”. وفي تلك الليلة التي رضخ فيها بومدين- يقول زكريا حميدو- توقفت سيارة شرطة أمام دار جدي العربي حميدو، غير بعيد عن مقر محافظة الشرطة، وتم استدعاؤه للمثول أمام محافظ الشرطة الذي يحتاجه في “أمر هام”. ويواصل زكريا “قبل أن يغادر بابا العربي، كما كنت أناديه، جمع أبناءه وبناته وأوصاهم بإكمال مراسيم الجنازة والدفن بطريقة تليق بمقام الزعيم، مهما كلّفهم ذلك من ثمن، وقال لهم: اسمعوا رجعت أو لم أرجع أكملوا مراسيم الجنازة. قال الحاج العربي لبنيه.. وبمجرد دخوله مقر الشرطة بدأت الاستفزازات والتعذيب المعنوي في انتظار دام عدة ساعات، ليستقبله المحافظ ويطلب منه دفن مصالي في سرّية ودون أن يوضع عليه علم الجزائر، آمرا إياه بنزع الأعلام الوطنية التي زيّن بها مدخل الدار، فأجابه العربي حميدو: “يا ابني هذا الذي سندفنه هو من صمّم العلم الجزائري، وهو الذي حضّر لطرد محافظ الشرطة الفرنسي الذي تجلس مكانه الآن، ولن نرضى إلا بجنازة تليق بمقامه”. وعاد العربي حميدو إلى البيت يحضّر الجنازة ويتصل بأنصار الحركة الوطنية لإشاعة الخبر، وطلب من أبنائه تجهيز سيارة من طراز “بيجو 404” بيضاء اللون، كلّف ابنه مراد حميدو ليتوجه بها إلى وهران لاستقبال الجثمان. 
وتطابقت شهادات من حضروا لحظة وصول الجثمان إلى مطار السانيا وهران مع ما كتبته جنينة مصالي في مذكراتها؛ فهذه الحاجة خديجة حميدو، ابنة الراحل العربي، تروي لـ«الخبر” أنها رافقت شقيقها مراد في تلك الليلة المشهودة إلى وهران، وبمجرد نزول النعش ومن كان يرافقه من أفراد عائلة مصالي من الطائرة حتى بدأت تدوي الزغاريد بمطار السانيا، ودخلت خديجة حميدو في صراخ هستيري “هذا رجل عظيم.. هذا رجل مظلوم.. كرّس حياته لاستقلال الجزائر”. في تلك اللحظات المشحونة بالقلق حوّلت شرطة المطار النعش إلى وجهة مجهولة.. انتظر فيها أفراد العائلة من الساعة السادسة مساء إلى منتصف الليل، وكانت الخطة- يقول زكرياء حميدو، لـ«الخبر”، نقلا عن والده الراحل 
حميدو الذي قاد الموكب الجنائزي من وهران إلى تلمسان- هي محاولة التعتيم على خبر وصول مصالي الحاج ميتا إلى أرض وطنه. وكانت الطريق مزدحمة بالحواجز الأمنية المسلحة، التي منعت دخول الموكب إلى مدينة وهران. وفي الطريق توجّس الراحل حميدو مراد خيفة من أي محاولة لاعتراض سبيله ومنع وصول الموكب إلى تلمسان، فراح يسلك منعرجات وطرق جانبية لتفادي الحواجز والملاحقات الأمنية. ومع بزوغ فجر الجمعة للثامن من شهر جوان سنة 1974 كان مصالي الحاج في بيت الحاج العربي حميدو بحي الفخارين بتلمسان، جثة مطمئنة هامدة، داخل نعش يزيّنه علم الجزائر، بل علم نجم شمال إفريقيا، بلونه الأحمر الذي رمز به مصالي لمراكش الحمراء، وأخضره الرامز لتونس الخضراء وبأبيضه الرامز للجزائر البيضاء، وبنجمته الخماسية الموحدة لشعوب مغرب عربي كبير، كان يحلم به مؤسس نجم شمال إفريقيا. 
الجنازة التي كسرت حاجز الخوف من نظام هواري بومدين
صحفي ومناضل تجاوز عقده السادس بثلاث سنوات، كتب سنة 1995، وباسم مستعار، مقالا مطولا بعنوان “مصالي الحاج المنسي الكبير في التاريخ الجزائري” وكان من بين آلاف الشباب الذين تهافتوا على حمل نعش مصالي الحاج في جنازته المهيبة. إنه ميلود زناسني، صحفي ورئيس مكتب “لوسوار دالجيري” بتلمسان، كان هناك يومها، منذ أربعين سنة، ويروي لـ«الخبر” شهادته قائلا: “جنازة مصالي الحاج كانت بمثابة سقوط حائط أو حاجز الخوف من نظام هواري بومدين، أو من نظام الحزب الواحد الذي حاول تكميم أفواه معارضيه بعد الاستقلال”، ويضيف الحاج الميلود “كل المناضلين، نساء ورجالا، خرجوا في جنازة مصالي.. من تلمسان، ومن بلاد القبائل ومن كل الجزائر، جاءوا لتشييع من قال يوما مخاطبا فرنسا الاستعمارية (هذه الأرض ليست للبيع)، وأمام الجمهور الكبير من المشيّعين لم تجد مصالح الأمن سوى التفرج والمراقبة دون قمع ولا منع”.  وحسب ميلود زناسني، أحد الشهود العيان، فإن حضور وفود أجنبية من فرنسا وإسبانيا والمغرب أحرج السلطات وجعلها ترضخ للأمر الواقع. مناضل مغربي من حزب الاستقلال، لمؤسسه علال الفاسي، همس في أذن الميلود داخل المقبرة “مصالي الحاج كان سباقا لفكرة تحرير كل الشعوب المغاربية وليس الجزائر فقط، وهو من علمني أبجديات النضال النقابي في باريس”. 
كانت الشوارع مليئة بالمشيّعين من الجامع الكبير إلى مقبرة الشيخ السنوسي.. تكبير وتهليل وزغاريد لم تنقطع، حتى النساء خالفن أعراف المدينة وخرجن لمرافقة نعش الزعيم. ويتذكر ميلود زناسني الذي كان يومها طالبا في الجامعة، مقاطعا من تأبينية للمحامي الفرنسي إيف دي شازال، أحد رفاق مصالي الحاج والذي تدخل باللغة الفرنسية، بعد كلمة تأبينية أعقبت الدفن للمناضل المرحوم محمد ممشاوي، إيف دي شازال، قال “لقد عاد إلى وطنه كما تمنى ليدفن تحت ظلال أشجار الصنوبر. اختفاء مصالي من المشهد ليس لغلق صفحة وإنما لتفتح صفحة أخرى في التاريخ.. مصالي كان يقول لي “حين تزور تلمسان والجزائر ستجد شيوخا كبارا من أنصار حزب الشعب والحركة والوطنية، ولكنني أجد اليوم شبابا يتخاطفون على حمل نعشه” (انتهى كلام إيف دي شازال). وهنا تذكر جنينة مصالي في مذكراتها أن المحامي الفرنسي شدّ انتباه الحضور بكلماته فتقدم منه شخص يحمل جهاز تسجيل وسأله عن هويته؟ ليجيبه: “أنا المحامي إيف دي شازال من باريس”، ولتتقدم بدورها جنينة من السائل “ومن تكون أنت؟” فأجابها “أنا مفتش الشرطة القضائية”.
ميلود زناسني قال إن الكثير من الشباب في تلمسان سمعوا لأول مرة باسم مصالي الحاج يوم جنازته، ليختم حديثه معنا بالراهن السياسي في الجزائر، قائلا: “يثار هذه الأيام حديث عن دسترة المصالحة الوطنية كثابت من الثوابت الوطنية في التعديل الدستوري المقبل، وإذا كانت فعلا هناك إرادة للمصالحة فلتكن مصالحة شاملة تمتد إلى مسائل التاريخ، ليعاد الاعتبار إلى من تم ظلمهم وتهميشهم، ومنهم مصالي الحاج، الذي كسرت جنازته فعلا حاجز الخوف؛ فأن تكون مصاليا وقتها معناه أنك معرض للاعتقال والمتابعة”. ولا زالت الذاكرة الجمعية بتلمسان وغيرها من المدن الجزائرية تتذكر المجازر التي ارتكبت في حق أنصار مصالي الحاج ومنها مجزرة ملوزة، ومحاولة اغتيال العربي حميدو قرب السوق المغطاة في تلمسان عشية الاستقلال، وتصفية الإخوة تشوار ودفنهم بأعالي لالة ستي. 
وتظهر صورة عثرنا عليها بأرشيف عائلة حميدو، الراحل مراد ابن العربي حميدو وهو يسأل المجاهد حسين آيت أحمد عن مقتل الإخوة تشوار، فكان جواب آيت أحمد أن قال له “اسأل حميمد”، ويقصد المجاهد المرحوم أحمد بن بلة.
عمر العشعاشي (90 سنة).. دليل الجنازة من المسجد إلى المقبرة
الحاج عمر العشعاشي من قدماء الحركة الوطنية وحزب الشعب الجزائري مازال يحتفظ ببطاقة انخراط تعود إلى سنة 1947، مثقف وكاتب باللغة الفرنسية، زارته “الخبر” في بيته بحي الحرطون في تلمسان، ورغم ثقل السنين، بلغ في شهر ماي عقده التاسع، مازال يحتفظ بتفاصيل جنازة مصالي الحاج سنة 1974، بداية بمحيط دار العربي حميدو التي احتضنت مراسيم العزاء. فيذكر أن النعش غادر الدار نحو المسجد وقد أحاط به كبار مناضلي الحركة الوطنية، وذكر لنا العربي حميدو والطبال محمد والمرابط: “وسار الموكب الجنائزي المهيب نحو الجامع الكبير، حيث امتلأت الساحة المقابلة بالمشيّعين. وقريبا من مقر محافظة حزب جبهة التحرير الوطني بدأ المشيّعون في تلاوة جماعية لسورة “يس” من الذكر الحكيم، لأن الراحل مصالي كان لم يكمل السورة القرآنية حين توفاه الأجل بمستشفى باريس، حسب ما وجد عليه مصحفه الشخصي الذي كان يتلو منه ورده من القرآن يوميا، وكان يضع صورة لمدينة تلمسان داخل المصحف، حيث يكون قد انتهى من القراءة. وبعد صلاة الجنازة كنت في مقدّمة الموكب أوجّه المسير، يقول الحاج عمر، وتم التوقف قرب قلعة المشور في جو مهيب من الذكر وأناشيد الحركة الوطنية مثل “فداء الجزائر” و«من جبالنا”. اللّه اللّه على القبائل الأحرار كانوا حاضرين بقوة.. ليتابع الموكب سيره وسط متابعة لصيقة من أعوان الأمن الذين كانوا يلتقطون لنا الصور بطريقة استفزازية، لم نبالِ بها. وبشارع سيدي بلعباس، أول نوفمبر حاليا، توقف الموكب ثانية قرب زاوية الشيخ بن يلس، حيث درس وتعلّم مصالي الحاج الحروف العربية وأبجديات الطرق الصوفية، وبالاقتراب من المقبرة ازداد الجو مهابة وامتلأت الشوارع بالمعزّين والمشيّعين، وكان الشعور العام لدى الناس أن صاحب هذه الجنازة رجل مظلوم”. 
ويذكر الحاج عمر العشعاشي أن المناضل عبد القادر محداد كشف عن وجه مصالي الحاج وهو ممدّد على نعشه بدار الحاج العربي حميدو، ليقسم باللّه ثلاث أنه كان على حق وخصومه مخطئون. ليضيف الحاج عمر بنبرة فيها شيء من الحزن: “بعد مرور 52 سنة من الاستقلال لم ننجح في كتابة التاريخ الحقيقي للثورة الجزائرية، بسبب جدار الخوف من الحقيقة التي يخشاها صناع القرار”، مستطردا “سبحان اللّه، مستحيل أن تنجح ثورة نوفمبر 1954 في ليلة وضحاها، فالأرضية كانت مهيّأة بفضل نضال فصائل الحركة الوطنية المنتشرة في كل البلاد. هذا تاريخ ولابد أن نتصالح معه، ولابد أن يكتب بطريقة صحيحة”. ومنذ تلك الجنازة، وعلى مدار الأربعين سنة، لم ينقطع أنصار مصالي عن زيارة ضريحه والمبيت في ضيافة عمر العشعاشي، ليسترجع الأوفياء لحظات النضال وذكريات المعاناة من ظلم الاستعمار وتسلط الحزب الواحد.
تداعيات الجنازة تمتد إلى 1982 وبن بلة في دار العربي حميدو 
رحل الرئيس هواري بومدين عن الحياة وعن الحكم، وجاء الرئيس الشاذلي بن جديد، وظن الكثيرون أن الجزائر تتوجه نحو الانفتاح، يقول، لـ«الخبر”، زكريا، حفيد العربي حميدو لابنه مراد. وفي سنة 1980 زار الراحل أحمد بن بلة تلمسان للمشاركة في أربعينية وفاة الراحل العربي حميدو، وتوجه أحمد بن بلة إلى البيت الذي احتضن مصالي الحاج حيا وميتا، وكان بن بلة مصابا بحرج كبير لأن العربي حميدو رفض استقباله وزيارته بالمستشفى، حين كان على فراش المرض بمدينة وهران، ورغم الخصومة التاريخية والسياسية، رحّب به أفراد العائلة وكان برفقة زوجته وابنته مهدية، مثلما تظهره الصور التاريخية النادرة التي تنشر لأول مرة على وسيلة إعلامية. ويسرد علينا زكريا بعض اللطائف التي رافقت أحمد بن بلة إلى تلمسان يومها، فيقول: “من كثرة ما كنا نستمع إلى الوالد والجد يتحدثون عن “غدر” بن بلة وبوصوف وبومدين وخيانتهم لمصالي الحاج، قام أخي رضا بسرقة حذاء الرئيس بن بلة ورماه في فيلا بن زاكي المقابلة لدار جدي العربي حميدو، ولم يكتف بذلك، فملأ خزان الوقود لسيارة بن بلة بالسكر، وهو ما أغضب الوالد الذي قال لنا “هذا لا يجوز، فالرجل ضيف عندنا وكان رئيسا للجمهورية الجزائرية”. 
ويذكر زكريا حميدو أنه كان شابا يافعا حين رافق والده والرئيس أحمد بن بلة إلى مقبرة الشيخ السنوسي في زيارة سنة 1980، ويتذكر كيف كان أحمد بن بلة يبكي على قبر مصالي الحاج وهو يقول: “سامحنا سيدي الحاج لقد خدعناك”، عبارات يشهد عليها ويرددها العديد ممن حضروا الزيارة إلى المقبرة، يقول زكريا، ومن بينهم المناضل مسلي بشير. وبعد أشهر قليلة عن الحادثة، نشرت جريدة “المجاهد” الحكومية مقالا تاريخيا مطولا، لوالده مراد حميدو، تلقى إثره تشجيعات وثناء مثقفين وسياسيين، ومنهم حتى وزراء، وعادت ممارسات النظام إلى عاداتها القديمة، حين أحاطت مخابرات الرئيس الشاذلي بن جديد بالمنزل ومعها إذن بالتفتيش، كان ذلك في ربيع سنة 1982، بشارع خديم علي وسط مدينة تلمسان، كنت عائدا من المدرسة فوجدتهم يفتشون الدار غرفة بغرفة، لقد كان شعورا رهيبا، قال لنا زكريا، فريق الأمن العسكري الذي احتجز الوالد أسبوعا كاملا في مقر أمني بمدينة وهران أخذ معه أرشيفا من الصور والرسائل التاريخية، وحتى أسطوانات وأشرطة تمثل تراثا موسيقيا عريقا، كون الوالد كان في شبابه موسيقيا بارعا اشتغل مع الحاج العنقى وخزناجي وحتى العملاق العربي بن صاري ودحمان بن عاشور الذي نشط بنفسه حفل زفاف الوالد سنة 1965 في تلمسان؛ المحجوزات الموسيقية تتمثل في تسجيلات تراثية مهمة في الشعبي والأندلسي والحوزي، وظل الوالد يراسل السلطات العسكرية والمدنية لاسترجاعها لكن دون فائدة، والآن، ما الفائدة من حجز تراث موسيقي وطني في زمن التعددية والديموقراطية، إما أن يعاد تسليمه إلى العائلة، وهو حقها الشرعي، وإما يسلّم لجهة ثقافية عمومية، قال محدثنا.
وسمحت لنا عائلة حميدو، مشكورة، بزيارة دار الحاج العربي المليئة بالذكريات، حلوها ومرها، وبشهادة فردين من العائلة وبداخل الغرفة التي وضع بها نعش مصالي الحاج سنة 1974 ثم نعش العربي حميدو سنة 1980، روى لنا الشاهدان كيف أصرّ سرب من النحل على دخول الغرفة التي كان بها نعش الرجل الشجاع الشهم العربي حميدو، الذي ظل يرفض إغراءات رفاقه القدماء في صفوف الحركة الوطنية من الذين تبوأوا مناصب مسؤولية سامية في جزائر الاستقلال؛ أصرّ سرب النحل، في حادثة غريبة، على الطواف عدة مرات حول نعش الرجل الذي أصرّ على استقبال وتشييع جنازة مصالي الحاج.   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.