رمضان... الصوم و حلاوة المداومة على الطاعات.

 
موسم رمضان موسم مبارك من مواسم الآخرة، فطوبى لمَن وفّقه الله فيه للأعمال الصّالحة وتفضّل عليه بقَبولها، ويا خسارة ويا حسرة مَن مرّت به هذه الأيّام دون أن يقدّم فيها لنفسه صالحًا يلقاه إذا غادر هذه الدار، وما أعظم مصيبته إن كان قد شغل أيّامه بما يرضي الشّيطان ويتّفق مع ما تهواه النّفس الأمّارة بالسّوء.
 هذا الموسم العظيم يشتمل على فوائد جمّة، وعلى عبر وعظات تبعث في النّفس محبّة الخير ودوام التعلّق بطاعة الله، كما تكسب النّفس بغض المعصية والبعد من الوقوع فيما يسخط الله عزّ وجلّ.
إنّ أيّام شهر رمضان وهي تمرّ بك أخي الفاضل لهي فرصة من فرص العمر، قد تسنح لك هذه الفرصة مرّة أخرى، وقد يوافيك الأجل المحتوم قبل بلوغ ذلك، والمهم في الأمر أنّ تنتهز هذه الفرصة بشغلها في الطّاعة والبعد عن المعصية، وأهم من ذلك أن تحصل المداومة على ذلك، فإنّ من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، كما أنّ من العقوبة على السّيّئة السّيّئة بعدها، وذلك أنّ المسلم النّاصح لنفسه إذا وفّق لبلوغ هذا الشّهر المبارك عليه أن يشغله في طاعة ربّه الّذي خلقه لعبادته وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فارتاحت نفسه للأعمال الصّالحة وتحرّك قلبه للآخرة الّتي هي المستقر والمنتهى، والّتي لا ينفع الإنسان فيها إلّا ما قدّمت يداه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا مَن أتى الله بقلب سليم، نعم إذا ألفت النّفس الطّاعة في هذه الأيّام المباركات رغبة فيما عند الله، وكفّت عن المعصية خوفًا من عقاب الله، فالفائدة الّتي يكسبها المسلم من ذلك والعبرة الّتي يجب أن تكون معه بعد ذلك أن يلازم فعل الطّاعات واجتناب المنهيات، فلا يليق بالمسلم وقد ذاق طعم الطّاعة في هذه الأيّام من هذا الشّهر أن يتراجع وأن يحلّ محلّ تلك الحلاوة مرارة المعصية.
الصّيام سرّ بين العبد وبين ربّه لا يطّلع على حقيقته إلّا الربّ سبحانه وتعالى: “كلّ عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلّا الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي”، وذلك أنّ بإمكان العبد أن يختفي عن النّاس ويغلق على نفسه بابه ويأكل ويشرب، ثمّ يخرج إلى النّاس ويقول: أنا صائم، ولا يعلم ذلك إلّا الله تبارك وتعالى، ولكن يمنعه من ذلك اطلاع الله عليه ومراقبته له، وهذا شيء يحمد عليه الإنسان، والعبرة من ذلك أن يدرك المكلّف أنّ الّذي يخشاه إذا أخلّ بصيامه هو الّذي يخشاه إذا أخلّ بصلاته وزكاته وحجّه وغير ذلك ممّا أوجبه الله.
إنّ ممّا يشرح الصّدر ويدخل السّرور على النّفوس الطيّبة أن تكون المساجد عامرة بالمصلّين في الأيّام الأولى من شهر رمضان، ويكون انشراحها أعظم والسّرور أكبر في المداومة على ذلك، فالفائدة الّتي يليق بالمسلم بعد الّذي شاهده في هذه الأيّام من اكتظاظ المساجد بالمصلّين أن يعقد العزم ويصمّم على أن يكون ممّن يداوم على هذا الخير ولا ينقطع بمرور هذه الأيّام الرمضانية، ليكون من السبعة الّذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، فإنّ من بينهم رجلًا قلبه معلّق بالمساجد.
إنّ وجوب الصّيام عن الطّعام والشّراب وسائر المفطرات محلّه شهر رمضان، أمّا الصّيام عن الحرام فمحلّه طيلة عمر الإنسان، فالمسلم يصوم في أيّام شهر رمضان عن الحلال والحرام ويصوم طيلة حياته عن الحرام، فالصّيام عن الحلال والحرام نعيشه هذه الأيّام معًا، أمّا الصّيام عن الحرام فهو مستمر دائم، وذلك أنّ الصّوم في اللّغة الإمساك عن الشّيء، والصّوم الشّرعي هو الإمساك عن الأكل والشّرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، والمعنى الشّرعي جزء من جزئيات المعنى اللّغوي، فكما يطلق المعنى اللّغوي على المعنى الشّرعي فهو يشمله ويشمل غيره، ومن ذلك الامتناع عن الحرام، فامتناع العين واللّسان والأذن واليد والرجل والفرج عمّا منعت منه هو صيام من حيث اللّغة، وذلك أنّ الله تفضّل على العباد بهذه النّعم الّتي لا غنى لهم عنها، ولكن الله كما امتنّ عليهم بها، أوجب عليهم استعمالها فيما يرضيه، وحرّم عليهم استعمالها فيما يسخطه، ومن أعظم شكر الله على هذه النّعم أن يكون المسلم مستعملًا لها حيث أمر أن يستعملها فيه، ممتنعًا عن استعمالها في معصية من تفضّل عليه بها وبكلّ نعمة ظاهرة وباطنة سبحانه وتعالى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.