هكذا فجرت أعظم ثورة في العصر الحديث
عودة إلى البدايات الأولى للثورة
هنا فجرت أعظم ثورة في العصر الحديث
مجاهدو أول نوفمبر كانوا يعتقدون أنهم سيشاركون في مناورة تدريبية !!
إعداد: طاهر حليسي
بدأت أولى تباشير موعد الثورة خلال الاجتماع بقرية لقرين بمنزل مسعود أومزيطي الواقع بين بلديتي أولاد فاضل والشمرة بباتنة، وهناك كشف بن بولعيد الذي جاء معه بمناشير جلبها من قسنطينة وطابعة "رونيو"، لرفاقه الحاضرين وهم عاجل عجول وشيحاني بشير وطاهر نويشي وحاجي ومحمد خنطرة عن موعد الثورة ليلة الواحد من نوفمبر 1954، لقد قال لهم بنبرة حازمة ومباشرة: "الثورة المسلحة ستكون تحت لواء جيش التحرير الوطني، غايتها النهائية جزائر مستقلة جمهورية، لغتها العربية ودينها الإسلام وهي ليست حربا مقدسة. ستستغرق سنوات وستعرض فرنسا الاستقلال الذاتي لكن العرض سيكون مرفوضا".
يا لولاد سنبدأ ثورة التحرير!
في ختام اللقاء أمر عاجل عجول بتحضير منزل واقع بتيغزة قرب أريس من أجل تجميع 200 مجاهد ليلتيّ 30 و31 أكتوبر ومن ذلك المنزل ستنطلق الطلائع الضاربة، وعددها 25 مجموعة نحو مناطق عدة بالأوراس الكبير، فيما سيرابط طاهر نويشي بمجموعة من 60 رجلا بخنقة معاش لتنفيذ عمليات مكملة.
قبل أيام من الموعد المحدّد طرأت مشكلة في غاية الخطورة كادت تعصف بانطلاق الثورة، فقد سارع طاهر نويشي لنقل خبر سيء لعاجل عجول حينما أعلمه بأن صاحب المنزل الواقع بتيغزة، رفض تخصيص منزله لتجميع الأفواج وأنه تراجع عن التزامه السابق لـ "سي مصطفى"، فسادت حالة من الذعر والتوتر خاصة وأن بن بولعيد سافر في مهمة بجبال الأوراس ولا يمكنه العودة سوى ليلة 30 أكتوبر، وأثار التراجع بلبلة وحيرة، ولم ينقذ الموقف سوى المناضل علي بن شايبة الذي تدبر أمره، وتطوع مخصصا منزله العائلي الشاغر بدشرة أولاد موسى، لاحتضان عمليات توزيع السلاح وتوجيه طلائع جيش التحرير.
بدأت أولى الأفواج تتقاطر ليلا على الدشرة، والتزم عناصرها بتعليمات أعطيت لهم بارتداء ألبسة غليظة وانتعال أحذية خشنة للمشاركة في مناورات تدريبية وضرورة اتباع مسالك محددة بعيدة عن دشرة أولاد موسى والانتظار حتى يقوم مكلفون بنقلهم لمكان الاجتماع، لم يكن المشاركون في تلك الهجومات يعلمون بأنهم سينفذون الهجومات سوى ليلة 30 أكتوبر، وفي تلك الليلة وحينما أعلم بن بولعيد بتغيير المكان لحظات قبل وصوله صاح متوجسا "أني أشم رائحة خيانة في الأفق" غير أن عجول شرح له التغييرات الطارئة التي حدثت في غيابه. وطبيعي أن يصدر أمر كهذا من بولعيد حيث يؤكد الدكتور محمد مداسي صاحب كتاب "مغربلو الرمال : "بن بولعيد كان يحب فعل كل شيء بنفسه، ولم تكن له ثقة مطلقة في معاونيه" وليس ذلك راجع لكونه شخصا أنانيا بل لأنه كان يجسد بحق القائد الذي يحب أن يعلم بكل كبيرة وصغيرة، و ـ روح الثورة ـ كما وصفه عاجل عجول حينما أوصى مجموعة من الحرس، بضرورة حمايته والعناية به غداة مرافقته لتونس من أجل جلب السلاح.
حينما أطمأن بن بولعيد بأن كل شيء على ما يرام دخل دشرة أولاد موسى تلك القلعة الحصينة المكونة من 40 غرفة مبنية بالحجر، جمع المجاهدين الأوائل وخطب خطبته الشهيرة: "يا لولاد سنبدأ ثورة التحرير، معركتنا هي معركة الضعيف ضد القوي، تكمن قوتنا في إيماننا وفي الاتصال بين المجموعات حتى لو فصلت بينهم المسافات البعيدة. الدم الذي سيزهق هو أيضا عامل وحدة .. علينا أن نجبر العدو على مهاجمتنا كي نوجه له ضربات دون تعريض حياتنا للخطر، إذا كان التراجع غير ممكن فعلينا أن نحسن الموت بشرف، العدو مخادع لا ينبغي الثقة به أبدا. إذا وجدتم قلما أو حبة حلوة فاحذروا أن تكون قنبلة أو مادة ملغومة".
ثم راح يشرح كيفية التعامل مع الاستعمار وكيفية استخدام كلمات السر، أعاد ذلك عشرات المرات بلا كلل أو ملل وتلك عادته، يقول المجاهد الطبيب محمد مداسي "بن بولعيد كان يعي أن أغلب الرفاق غير متعلمين، لذلك كان يقدم الفكرة ويشرحها ويعيد شرحها مرارا وتكرارا حتى تعلق بالأذهان"، بعدها اختلى داخل غرفة بشيحاني بشير وقام بتعيين الأفواج المشاركة وانتهت الجلسة بعدما تم تحديد الأهداف وشرع في توزيع السلاح و300 رصاصة لكل مقاتل ثم تكفل المناضل عبد الوهاب عثماني بشرح كيفية استخدام قنابل ذات فتائل طرحت في صالة عريضة. ثم نصبت الموائد وتناول الرفاق كسكسا حضرته شقيقة علي بن شايبة وحفيدته والعجوز خضرا وابنة عمه نونة، وكسي الطعام بقطع من لحم، خمس عنزات ذبحها صاحب المنزل، الذي نذر رزقه وعائلته للثورة.
عجول يعاتب بن بولعيد لنسيانه منح سلاح لصاحب المنزل
قبل انطلاق الأفواج ظهرت مشكلة عويصة حينما تقدم عاجل عجول وفاتح بن بولعيد في أمر يخص علي بن شايبة الذي وقف يراقب الرجلين، قال عجول لبن بولعيد: "سي مصطفى علي بن شايبة الرجل الذي فتح لنا بيته، وذبح لنا عنزه واشترى سلاحه من حر ماله لم تمنحه سلاحا ليشارك في الهجمات". بن بولعيد الذي لم ينم سوى سويعات خلال عدة ليال رد بتوتر "وين رانا رايحين إذا كان كل واحد يريد أن ننفذ ما يريده. أنا المسؤول أمنح السلاح الذي أريد للشخص الذي أريد"، فيراجعه عجول "لكن سي مصطفى أنت تعرف أن بن شايبة باع ماعزا وحصانا واشترى ثلاث قطع سلاح ومسدسين من ماله الخاص فليس عدلا أن لا يمنح قطعة من سلاحه'' استدار بن بولعيد نحو بن شايبة وسأله: لماذا تريد سلاحا ؟ فرد عليه بجواب مفعم ومفحم" أريد أن أقاتل بها الاستعمار مثلي مثل بقية إخواني" يمنحه بن بولعيد قطعة انتزعها من ظهر مقاتل من جماعة عجول، ثم إن بن بولعيد المتأثر بحساسية الموقف راح يناجي عجول "تعلم أن عائلتي نبذتني وقالت عني مجنون يبذر أمواله من أجل الثورة واليوم"، فيقاطعه عجول وهو يربت على كتفه متأثرا بدوره: أرجوك سي مصطفى انس هذه القصة الآن!
تهديدات بقتل المترددين
ليلة انطلاق الثورة لم تكن خطا مستقيما بل كادت مشكلات طارئة أن تفسد انطلاقتها، لقد انتظر بن بولعيد بوسعد صاحب شاحنة كان ينوي تأجيرها لنقل 35 مجاهدا مكلفا بمهاجمة ثكنة ومواقع وسط مدينة باتنة، مدعيا جلب حمولة قمح، غير أن بوسعد الكتوم والمتحفظ بطبعه أخلف الوعد، فهرع بن بولعيد لسائقه عزوز مدعيا له أنه يريد شاحنة لنقل جماعة إلى عرس، وطمأن سائقه بوجود شاحنة بن لحلوح بالحجاج فذهبا وجاءا بها، غير أن عزوز شعر بذعر وخوف وهو يشاهد 35 رجلا مدججا بالسلاح يمتطون الشاحنة ولم يبطئ أن تقيأ فوق لباسه، ولئن أثار ما حدث لسائق بن بولعيد ضحك البعض. فإن موقفا آخر سيثير غضب سي مصطفى وبشدة حينما تلكأ أحد الأشخاص عن مرافقتهم للمدينة بحجة مرض طارئ وهو الذي كان مكلفا بإرشادهم بمداخل ومخارج، ومخزن أسلحة ثكنة المدينة بحكم عمله السابق في الفرقة العسكرية "الصبايحية". لم يتمالك بن بولعيد نفسه من الغضب وأمسكه من تلابيبه وقذف به داخل الشاحنة وهو يقول لعلي بعزي قائد الفوج: "أحرسه وإذا تراجع اقتله" !!
انطلق بن بولعيد مع مجموعة أخرى داخل سيارتين بينهما سيارته لكنه عاد لدشرة أولاد موسى عند الثالثة فجرا ووجد بانتظاره كل من شيحاني بشير ومرافقه الشخصي بيشة الجودي المكنى بوسنة، ومصطفى بوستة، وعاجل عجول ومدور عزوي، قصدوا قمة تافرنت أولاد عيشة، ومكثوا هناك حتى الخامسة متلهفين لسماع أخبار الثورة بواسطة مذياع صغير، لم ينتشر الخبر بالشكل المنتظر عدا ما نقلته إذاعة فرنسية باقتضاب عن وقوع أحداث بمنطقة الأوراس.
ما من شك كان بن بولعيد مغتبطا لانطلاقتها رغم كل شيء لكن عقليته الإتقانية لكل شيء، أظهرته في مظهر القائد الناقد. فلم يكن راضيا البتة عن سير العمليات وتأخر رؤساء الأفواج في توفير المعلومات الكاملة عن سير العمليات الهجومية، سيؤجل المحاسبة والتقييم لوقت آخر حتى تنقشع الغمامات الأولى لشهر نوفمبر. عقليته الاستشرافية كانت منشغلة لما بعد انطلاق الثورة، تلك الثورة التي انطلقت بمبلغ 15 ألف سنتيم فقط قرر أن يقتطع منها 5.000 سنتيم سلمها لشراء المؤن والأغذية استعدادا لقادم الأيام.
بن بولعيد يصفع حارسه ويبعد شقيقه عن مسؤوليات الثورة
في الأسبوعين الأولين عقد بن بولعيد عدة جلسات تقييم مع قادة الأفواج لم يكن راضيا عن تخلف أحمد نواورة عن مهاجمة أريس، كما لم يكن مسرورا البتة بنتائج الهجومات، صحيح أنها كانت إعلانا للثورة، لكنها لم تحقق ما كان يترجاه من أهداف ميدانية كغنم السلاح وإلحاق خسائر فادحة بالعدو، بل إنه كان ينظر بعين القلق للخلافات الناشبة بين عاجل عجول وبن عيسي وتلك الناشئة بين عباس لغرور وعمار معاشي، لكنه كان يتمتع بعقلية براغماتية يوجزها الدكتور محمد مداسي قائلا "من الواضح أنه لولا بن بولعيد لما كان ثمة ثورة بالأوراس، لقد كان مناضلا محنكا، عارفا بخبايا المنطقة، وقادرا على أن يشغل معا إخوة ولدوا أعداء بالفطرة، معروف أن قراراته لم تكن كلها ذات نهايات سعيدة فقد كانت له عثرات غير أنه كان ينهض منها بسرعة" يعلم بن بولعيد العيوب القبلية التي قد تحوّل مجرد خلاف شخصي لنزاع قبلي متأصل، لذا فإنه سيسارع منذ الوهلة الأولى لرسم خريطة جغرافية لعمل الأفواج، حتى لا تصطدم فيما بينها لأسباب عروشية وهو استعد لذلك فاشترى من قبل خريطة للأوراس من مكتبة بباتنة. وكلف عاجل عجول الخبير بالمنطقة بشرا وحجرا وجبالا ومنابع مياه، كان يردد أن نجاح أي عمل سيبنى على النظام والانتماء لمجموعة منظمة ثم للسلوك الواجب اتخاذه للحفاظ على صورة البناء بمثالية وتجرد، فقد اشتكى له بعض القادة من رفض بعض المحسوبين عليه عن أداء واجبات جمع الماء والحراسة فيهون من الأمر ثم يجيب "حسنا، سأتكفل أنا بفعل ذلك بدلا عنهم".
سيوصي بلا هوادة بإبقاء شقيقه "عمر بن بولعيد" بعيدا عن مجلس إدارة الثورة أو تولي مسؤوليات، بها وبأن يمارس مهامه كجندي مثله مثل بقية الجند. وكان يقول "جيش التحرير أشبه بمنزل، إذا تداعى أحد جداره هوت البناية كاملة، أمن الجميع مرتبط بيقظة كل فرد". ولم يتردد في أن يهوي بصفعة على مرافقه وحارسه الشخصي بيشة الجودي أسقطته أرضا بسبب محاولته إطلاق النار، على مروحية خشية تعريض مجموعة لقصف عنيف جراء سوء تقدير قوة الخصم. ثم إنه يردعه "يا فوضوي ستهلكنا جميعا بتصرفاتك الرعناء. أقسم بالله اني سأقتلك ذات يوم". قبل أن يساعده على النهوض مادا له يده وماسحا الثلج من على كتفه مثلما يفعل الأب مع ابنه !!
ابن بولعيد يوبخ لغرور: لا يحق لك أخذ كيس دقيق من الشعب
لن يتورع في تأنيب وتوبيخ القائد عباس لغرور بسبب أخذه بالقوة كيس دقيق وبغل، من مواطنين مدنيين بعد انتهاء معركة رأس طبابوش، "اسمع يا عباس غير مسموح لك أن تأخذ ملك الناس بالقوة، في هذه الحالة ليس هناك فرق بين الاستعمار وبيننا. نقبل فقط ما يمنحه الناس لنا عن طيب خاطر أو بشرائه منهم". وحينما يرد عباس لغرور: "حسنا.. نشتريه ولكن أين المال؟".
- يعقب عليه مبتسما:
"إذا شرّفك فقير ومد برنوسه لتجلس عند حافته فاحذر أن تجلس في وسطه أكرر لك يا سي عباس إن المواطنين ليسوا مجبرين على إطعامنا. ما أخذته اليوم يمكن أن يشكل الكل أو الجزء، مما جمعه الفقراء بعنت وصعوبة".
في الواقع ظل بن بولعيد منذ اجتماع دشرة أولاد موسى يرسم تعاليم الثورة ويؤمن المستقبل كي يأخذ الجذر المزروع شكل شجرة تصير غابة، وطيلة أسبوعين مكث بغابات الأوراس يعالج العثرات ويصحح النظر لكنه قفز فرحا عندما سمع في إذاعات فرنسية تقول "بلغ عدد الثوار 3000 مقاتل بمنطقة الأوراس" لقد.أيقن أخيرا أن غرس الثورة سيؤتي أكله لا محالة وأن قطار الاستقلال لن يوقفه أحد".
تنبيه: الحوارات بين بولعيد ورفاقه، منقولة من كتاب "مغربلو الرمال" لمؤلفه محمد العربي مداسي.............................. نقلا عن جريدة : الشروق اليومي.
هنا فجرت أعظم ثورة في العصر الحديث
مجاهدو أول نوفمبر كانوا يعتقدون أنهم سيشاركون في مناورة تدريبية !!
إعداد: طاهر حليسي
بدأت أولى تباشير موعد الثورة خلال الاجتماع بقرية لقرين بمنزل مسعود أومزيطي الواقع بين بلديتي أولاد فاضل والشمرة بباتنة، وهناك كشف بن بولعيد الذي جاء معه بمناشير جلبها من قسنطينة وطابعة "رونيو"، لرفاقه الحاضرين وهم عاجل عجول وشيحاني بشير وطاهر نويشي وحاجي ومحمد خنطرة عن موعد الثورة ليلة الواحد من نوفمبر 1954، لقد قال لهم بنبرة حازمة ومباشرة: "الثورة المسلحة ستكون تحت لواء جيش التحرير الوطني، غايتها النهائية جزائر مستقلة جمهورية، لغتها العربية ودينها الإسلام وهي ليست حربا مقدسة. ستستغرق سنوات وستعرض فرنسا الاستقلال الذاتي لكن العرض سيكون مرفوضا".
يا لولاد سنبدأ ثورة التحرير!
في ختام اللقاء أمر عاجل عجول بتحضير منزل واقع بتيغزة قرب أريس من أجل تجميع 200 مجاهد ليلتيّ 30 و31 أكتوبر ومن ذلك المنزل ستنطلق الطلائع الضاربة، وعددها 25 مجموعة نحو مناطق عدة بالأوراس الكبير، فيما سيرابط طاهر نويشي بمجموعة من 60 رجلا بخنقة معاش لتنفيذ عمليات مكملة.
قبل أيام من الموعد المحدّد طرأت مشكلة في غاية الخطورة كادت تعصف بانطلاق الثورة، فقد سارع طاهر نويشي لنقل خبر سيء لعاجل عجول حينما أعلمه بأن صاحب المنزل الواقع بتيغزة، رفض تخصيص منزله لتجميع الأفواج وأنه تراجع عن التزامه السابق لـ "سي مصطفى"، فسادت حالة من الذعر والتوتر خاصة وأن بن بولعيد سافر في مهمة بجبال الأوراس ولا يمكنه العودة سوى ليلة 30 أكتوبر، وأثار التراجع بلبلة وحيرة، ولم ينقذ الموقف سوى المناضل علي بن شايبة الذي تدبر أمره، وتطوع مخصصا منزله العائلي الشاغر بدشرة أولاد موسى، لاحتضان عمليات توزيع السلاح وتوجيه طلائع جيش التحرير.
بدأت أولى الأفواج تتقاطر ليلا على الدشرة، والتزم عناصرها بتعليمات أعطيت لهم بارتداء ألبسة غليظة وانتعال أحذية خشنة للمشاركة في مناورات تدريبية وضرورة اتباع مسالك محددة بعيدة عن دشرة أولاد موسى والانتظار حتى يقوم مكلفون بنقلهم لمكان الاجتماع، لم يكن المشاركون في تلك الهجومات يعلمون بأنهم سينفذون الهجومات سوى ليلة 30 أكتوبر، وفي تلك الليلة وحينما أعلم بن بولعيد بتغيير المكان لحظات قبل وصوله صاح متوجسا "أني أشم رائحة خيانة في الأفق" غير أن عجول شرح له التغييرات الطارئة التي حدثت في غيابه. وطبيعي أن يصدر أمر كهذا من بولعيد حيث يؤكد الدكتور محمد مداسي صاحب كتاب "مغربلو الرمال : "بن بولعيد كان يحب فعل كل شيء بنفسه، ولم تكن له ثقة مطلقة في معاونيه" وليس ذلك راجع لكونه شخصا أنانيا بل لأنه كان يجسد بحق القائد الذي يحب أن يعلم بكل كبيرة وصغيرة، و ـ روح الثورة ـ كما وصفه عاجل عجول حينما أوصى مجموعة من الحرس، بضرورة حمايته والعناية به غداة مرافقته لتونس من أجل جلب السلاح.
حينما أطمأن بن بولعيد بأن كل شيء على ما يرام دخل دشرة أولاد موسى تلك القلعة الحصينة المكونة من 40 غرفة مبنية بالحجر، جمع المجاهدين الأوائل وخطب خطبته الشهيرة: "يا لولاد سنبدأ ثورة التحرير، معركتنا هي معركة الضعيف ضد القوي، تكمن قوتنا في إيماننا وفي الاتصال بين المجموعات حتى لو فصلت بينهم المسافات البعيدة. الدم الذي سيزهق هو أيضا عامل وحدة .. علينا أن نجبر العدو على مهاجمتنا كي نوجه له ضربات دون تعريض حياتنا للخطر، إذا كان التراجع غير ممكن فعلينا أن نحسن الموت بشرف، العدو مخادع لا ينبغي الثقة به أبدا. إذا وجدتم قلما أو حبة حلوة فاحذروا أن تكون قنبلة أو مادة ملغومة".
ثم راح يشرح كيفية التعامل مع الاستعمار وكيفية استخدام كلمات السر، أعاد ذلك عشرات المرات بلا كلل أو ملل وتلك عادته، يقول المجاهد الطبيب محمد مداسي "بن بولعيد كان يعي أن أغلب الرفاق غير متعلمين، لذلك كان يقدم الفكرة ويشرحها ويعيد شرحها مرارا وتكرارا حتى تعلق بالأذهان"، بعدها اختلى داخل غرفة بشيحاني بشير وقام بتعيين الأفواج المشاركة وانتهت الجلسة بعدما تم تحديد الأهداف وشرع في توزيع السلاح و300 رصاصة لكل مقاتل ثم تكفل المناضل عبد الوهاب عثماني بشرح كيفية استخدام قنابل ذات فتائل طرحت في صالة عريضة. ثم نصبت الموائد وتناول الرفاق كسكسا حضرته شقيقة علي بن شايبة وحفيدته والعجوز خضرا وابنة عمه نونة، وكسي الطعام بقطع من لحم، خمس عنزات ذبحها صاحب المنزل، الذي نذر رزقه وعائلته للثورة.
عجول يعاتب بن بولعيد لنسيانه منح سلاح لصاحب المنزل
قبل انطلاق الأفواج ظهرت مشكلة عويصة حينما تقدم عاجل عجول وفاتح بن بولعيد في أمر يخص علي بن شايبة الذي وقف يراقب الرجلين، قال عجول لبن بولعيد: "سي مصطفى علي بن شايبة الرجل الذي فتح لنا بيته، وذبح لنا عنزه واشترى سلاحه من حر ماله لم تمنحه سلاحا ليشارك في الهجمات". بن بولعيد الذي لم ينم سوى سويعات خلال عدة ليال رد بتوتر "وين رانا رايحين إذا كان كل واحد يريد أن ننفذ ما يريده. أنا المسؤول أمنح السلاح الذي أريد للشخص الذي أريد"، فيراجعه عجول "لكن سي مصطفى أنت تعرف أن بن شايبة باع ماعزا وحصانا واشترى ثلاث قطع سلاح ومسدسين من ماله الخاص فليس عدلا أن لا يمنح قطعة من سلاحه'' استدار بن بولعيد نحو بن شايبة وسأله: لماذا تريد سلاحا ؟ فرد عليه بجواب مفعم ومفحم" أريد أن أقاتل بها الاستعمار مثلي مثل بقية إخواني" يمنحه بن بولعيد قطعة انتزعها من ظهر مقاتل من جماعة عجول، ثم إن بن بولعيد المتأثر بحساسية الموقف راح يناجي عجول "تعلم أن عائلتي نبذتني وقالت عني مجنون يبذر أمواله من أجل الثورة واليوم"، فيقاطعه عجول وهو يربت على كتفه متأثرا بدوره: أرجوك سي مصطفى انس هذه القصة الآن!
تهديدات بقتل المترددين
ليلة انطلاق الثورة لم تكن خطا مستقيما بل كادت مشكلات طارئة أن تفسد انطلاقتها، لقد انتظر بن بولعيد بوسعد صاحب شاحنة كان ينوي تأجيرها لنقل 35 مجاهدا مكلفا بمهاجمة ثكنة ومواقع وسط مدينة باتنة، مدعيا جلب حمولة قمح، غير أن بوسعد الكتوم والمتحفظ بطبعه أخلف الوعد، فهرع بن بولعيد لسائقه عزوز مدعيا له أنه يريد شاحنة لنقل جماعة إلى عرس، وطمأن سائقه بوجود شاحنة بن لحلوح بالحجاج فذهبا وجاءا بها، غير أن عزوز شعر بذعر وخوف وهو يشاهد 35 رجلا مدججا بالسلاح يمتطون الشاحنة ولم يبطئ أن تقيأ فوق لباسه، ولئن أثار ما حدث لسائق بن بولعيد ضحك البعض. فإن موقفا آخر سيثير غضب سي مصطفى وبشدة حينما تلكأ أحد الأشخاص عن مرافقتهم للمدينة بحجة مرض طارئ وهو الذي كان مكلفا بإرشادهم بمداخل ومخارج، ومخزن أسلحة ثكنة المدينة بحكم عمله السابق في الفرقة العسكرية "الصبايحية". لم يتمالك بن بولعيد نفسه من الغضب وأمسكه من تلابيبه وقذف به داخل الشاحنة وهو يقول لعلي بعزي قائد الفوج: "أحرسه وإذا تراجع اقتله" !!
انطلق بن بولعيد مع مجموعة أخرى داخل سيارتين بينهما سيارته لكنه عاد لدشرة أولاد موسى عند الثالثة فجرا ووجد بانتظاره كل من شيحاني بشير ومرافقه الشخصي بيشة الجودي المكنى بوسنة، ومصطفى بوستة، وعاجل عجول ومدور عزوي، قصدوا قمة تافرنت أولاد عيشة، ومكثوا هناك حتى الخامسة متلهفين لسماع أخبار الثورة بواسطة مذياع صغير، لم ينتشر الخبر بالشكل المنتظر عدا ما نقلته إذاعة فرنسية باقتضاب عن وقوع أحداث بمنطقة الأوراس.
ما من شك كان بن بولعيد مغتبطا لانطلاقتها رغم كل شيء لكن عقليته الإتقانية لكل شيء، أظهرته في مظهر القائد الناقد. فلم يكن راضيا البتة عن سير العمليات وتأخر رؤساء الأفواج في توفير المعلومات الكاملة عن سير العمليات الهجومية، سيؤجل المحاسبة والتقييم لوقت آخر حتى تنقشع الغمامات الأولى لشهر نوفمبر. عقليته الاستشرافية كانت منشغلة لما بعد انطلاق الثورة، تلك الثورة التي انطلقت بمبلغ 15 ألف سنتيم فقط قرر أن يقتطع منها 5.000 سنتيم سلمها لشراء المؤن والأغذية استعدادا لقادم الأيام.
بن بولعيد يصفع حارسه ويبعد شقيقه عن مسؤوليات الثورة
في الأسبوعين الأولين عقد بن بولعيد عدة جلسات تقييم مع قادة الأفواج لم يكن راضيا عن تخلف أحمد نواورة عن مهاجمة أريس، كما لم يكن مسرورا البتة بنتائج الهجومات، صحيح أنها كانت إعلانا للثورة، لكنها لم تحقق ما كان يترجاه من أهداف ميدانية كغنم السلاح وإلحاق خسائر فادحة بالعدو، بل إنه كان ينظر بعين القلق للخلافات الناشبة بين عاجل عجول وبن عيسي وتلك الناشئة بين عباس لغرور وعمار معاشي، لكنه كان يتمتع بعقلية براغماتية يوجزها الدكتور محمد مداسي قائلا "من الواضح أنه لولا بن بولعيد لما كان ثمة ثورة بالأوراس، لقد كان مناضلا محنكا، عارفا بخبايا المنطقة، وقادرا على أن يشغل معا إخوة ولدوا أعداء بالفطرة، معروف أن قراراته لم تكن كلها ذات نهايات سعيدة فقد كانت له عثرات غير أنه كان ينهض منها بسرعة" يعلم بن بولعيد العيوب القبلية التي قد تحوّل مجرد خلاف شخصي لنزاع قبلي متأصل، لذا فإنه سيسارع منذ الوهلة الأولى لرسم خريطة جغرافية لعمل الأفواج، حتى لا تصطدم فيما بينها لأسباب عروشية وهو استعد لذلك فاشترى من قبل خريطة للأوراس من مكتبة بباتنة. وكلف عاجل عجول الخبير بالمنطقة بشرا وحجرا وجبالا ومنابع مياه، كان يردد أن نجاح أي عمل سيبنى على النظام والانتماء لمجموعة منظمة ثم للسلوك الواجب اتخاذه للحفاظ على صورة البناء بمثالية وتجرد، فقد اشتكى له بعض القادة من رفض بعض المحسوبين عليه عن أداء واجبات جمع الماء والحراسة فيهون من الأمر ثم يجيب "حسنا، سأتكفل أنا بفعل ذلك بدلا عنهم".
سيوصي بلا هوادة بإبقاء شقيقه "عمر بن بولعيد" بعيدا عن مجلس إدارة الثورة أو تولي مسؤوليات، بها وبأن يمارس مهامه كجندي مثله مثل بقية الجند. وكان يقول "جيش التحرير أشبه بمنزل، إذا تداعى أحد جداره هوت البناية كاملة، أمن الجميع مرتبط بيقظة كل فرد". ولم يتردد في أن يهوي بصفعة على مرافقه وحارسه الشخصي بيشة الجودي أسقطته أرضا بسبب محاولته إطلاق النار، على مروحية خشية تعريض مجموعة لقصف عنيف جراء سوء تقدير قوة الخصم. ثم إنه يردعه "يا فوضوي ستهلكنا جميعا بتصرفاتك الرعناء. أقسم بالله اني سأقتلك ذات يوم". قبل أن يساعده على النهوض مادا له يده وماسحا الثلج من على كتفه مثلما يفعل الأب مع ابنه !!
ابن بولعيد يوبخ لغرور: لا يحق لك أخذ كيس دقيق من الشعب
لن يتورع في تأنيب وتوبيخ القائد عباس لغرور بسبب أخذه بالقوة كيس دقيق وبغل، من مواطنين مدنيين بعد انتهاء معركة رأس طبابوش، "اسمع يا عباس غير مسموح لك أن تأخذ ملك الناس بالقوة، في هذه الحالة ليس هناك فرق بين الاستعمار وبيننا. نقبل فقط ما يمنحه الناس لنا عن طيب خاطر أو بشرائه منهم". وحينما يرد عباس لغرور: "حسنا.. نشتريه ولكن أين المال؟".
- يعقب عليه مبتسما:
"إذا شرّفك فقير ومد برنوسه لتجلس عند حافته فاحذر أن تجلس في وسطه أكرر لك يا سي عباس إن المواطنين ليسوا مجبرين على إطعامنا. ما أخذته اليوم يمكن أن يشكل الكل أو الجزء، مما جمعه الفقراء بعنت وصعوبة".
في الواقع ظل بن بولعيد منذ اجتماع دشرة أولاد موسى يرسم تعاليم الثورة ويؤمن المستقبل كي يأخذ الجذر المزروع شكل شجرة تصير غابة، وطيلة أسبوعين مكث بغابات الأوراس يعالج العثرات ويصحح النظر لكنه قفز فرحا عندما سمع في إذاعات فرنسية تقول "بلغ عدد الثوار 3000 مقاتل بمنطقة الأوراس" لقد.أيقن أخيرا أن غرس الثورة سيؤتي أكله لا محالة وأن قطار الاستقلال لن يوقفه أحد".
تنبيه: الحوارات بين بولعيد ورفاقه، منقولة من كتاب "مغربلو الرمال" لمؤلفه محمد العربي مداسي.............................. نقلا عن جريدة : الشروق اليومي.
تعليقات
إرسال تعليق