ســـــــــدّ بنـــــــــي هــــــــارون لم يحوّل ميلة إلى "جنة "

استثمارات على الورق و قراصنة ينهبون الثروة و المرفق لترويج المخدرات


مضت أزيد من ست سنوات على دخول سد بني هارون، بولاية ميلة، الخدمة بعد تدشينه من قِبل رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، حيث حملت هذه المنشأة المائية، الأكبر من نوعها في الجزائر، الكثير من الأحلام لسكان ولاية ميلة، وهم الذين علّقوا عليها آمالا كبيرة لإخراج ولايتهم من قوقعة التخلف والفقر والبطالة، خصوصا مع الوعود والبرامج التي أطلقت من قِبل السلطات ورسمت صورا جميلة لمستقبل هذه الولاية وسكانها، بتحويلها، ليس فقط لمورد ضخم للماء، وإنما إلى ”جنة” تنموية تستقطب العشرات من المشاريع الاستثمارية المثمرة التي تعود بالفائدة على حياة الناس بفضل هذا السد ”الأيقونة” الفريد من نوعه، حيث تم التسويق لفكرة أن الآفاق واعدة ومبشّرة بالخير مع هذا السدّ العملاق الذي أكسب ميلة لقب ”عاصمة المياه”، لما يحتويه من قدرات ومؤهلات في كثير من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والترفيهية السياحية.
 وإذا كانت الكثير من الإنجازات قد تحققت بفضل هذا السد، وأهمها إيصال الماء إلى حنفيات سكان ست ولايات شرقية، إلا أن الوجه الخفي لواقع هذا السد العملاق يوحي بأن لا شيء تحرك قيد أنملة، في ظل التأخر الفادح الذي تعرفه الكثير من المشاريع التي أعلن عنها في وقت سابق، والتي يبدو أنها مجرد ”أحلام” نسجت في خيال أصحابها ووهم من الصعب تصديقه، زيادة على جملة من الظواهر والمشاكل التي صارت لصيقة به، كالتلوث وغياب سياج الحماية ونهب الثروة السمكية من قِبل ”قراصنة” لم يستطع أحد ردعهم، ولجوء بعض مروّجي المخدرات إلى استغلال حوضه المائي الشاسع، الذي يمتد طولا على مسافة 50 كلم، لتمرير المخدرات بين البلديات الواقعة على ضفاف السد.

البدايــــــــــــــــــــــــــــــــات الأولــــــــــــــــــــى
يعود التفكير في إنشاء سد بني هارون إلى أزيد من ثلاثة عقود خلت، حيث كان التفكير أساسا منصبّا حول إنجاز هذا السد ”العملاق” عند تلاقي وادي الرمال مع وادي النجا بمنطقة بني هارون، بهدف استغلال مياه السهول القسنطينية العليا، وتثمين المياه السطحية الكثيرة في هذه المنطقة الإستراتيجية من شرق البلاد التي تسجل إحدى أكبر نقاط التساقط في الجزائر، لكنها تضيع هباء وتصب في البحر.
وقد انصب هذا المشروع تحديدا على إنجاز مركّب مائي كامل متعدد الحلقات، قلبه هو سد بني هارون بحوض مساحته 72 ألف متر مربع مع سدود أخرى، بهدف سد حاجيات 5 ملايين نسمة من مياه الشرب، إلى جانب سقي 30 ألف هكتار عبر ست ولايات شرقية وهي ميلة، قسنطينة وجيجل وأم البواقي وخنشلة وباتنة.
وبين الشروع في تشييد المشروع رسميا سنة 1988 وتدشينه وبدء استغلال مياهه في شهر سبتمبر سنة 2007 لصالح ولايتي ميلة وقسنطينة، مرت مراحل كثيرة ومتعددة، كما ارتبطت جديا بتحولات ومستجدات وطنية وإقليمية ودولية كان لها الأثر الواضح في تعطل الأشغال وتعثرها، وهو ما انعكس على كلفة المشروع التي ارتفعت إلى ما يقارب أربع مليارات دولار في نهاية المطاف.
مشاريــــــع الاستثمــــــــــــار.. أحــــــــلام ورديــــــــــــــــة
يكتنز السد فعلا إمكانيات كبيرة قد تجعله منطقة استقطاب سياحي مهمة، خصوصا وقوعه على الطريق الوطني رقم 27 المؤدي للشواطئ الجيجلية، ووجود تحفة هندسية فاخرة لجسر ”وادي الذيب” الذي يمر فوقه وسط طبيعة جبلية جميلة تحيط بهما، وهو ما وضعه في قلب مقترحات عديدة قدّمتها الولاية للمتعاملين الاقتصاديين من أجل تجسيد مشاريع سياحية وفندقية وترفيهية معتبرة وواعدة، منها إنجاز حظائر للتسلية والتنزه تضمن التنقل عبر السدّ بالقوارب، حتى إن هناك من اقترح فكرة لإنجاز تيليفيريك يربط ضفتي السد.
لكن للأسف، بقيت هذه المشاريع برغم أهميتها ونجاعتها الاقتصادية المضمونة، مجرد أوهام وأحلام لم ترى النور بعد، حيث لا تزال المشاريع الـ14 التي سبق الإعلان عنها من قِبل مديرية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وترقية الاستثمار تحت عنوان تنشيط الحركة السياحية في محيط سد بني هارون حبيسة الأدراج، باستثناء تظاهرة وطنية للماء كل شهر مارس يتم فيها تنظيم سباق للقوارب الشراعية، وذلك في ظل التحرك المحتشم للجنة الولائية لدعم وترقية الاستثمار، وكذلك غياب النية الجادة والفكر الاستثماري البنّاء للمستثمرين الذين يدفعهم قبل كل شيء طمع الاستيلاء على العقار دون تجسيد مشاريعهم، فإلى اليوم لا أثر للمركّبات السياحية ولا الفنادق ولا حتى مشروع أول شاطئ اصطناعي في الجزائر وإفريقيا، الذي وعد المسؤولون بإنجازه خلال شهر جوان من السنة الجارية، ليسمح للعائلات بقضاء العطلة على ضفاف سد بني هارون بدل التنقل إلى شواطئ البحر، رغم أن هذا المشروع سهل وغير مكلّف، حيث يتم إنجازه بنثر كميات من الحصى والرمل على الضفة تفاديا لانغماس الزوار في الطين، ويمتد على مسافة 100 إلى 150 متر.
كما لم يظهر أي أثر للمتنزه الذي كان مقررا أن تحتضنه بلدية الشيقارة على الربوة المطلة على السد، والتي تتيح للزوار الإحاطة بجميع مكونات السد وجسر ”وادي الذيب” من مكان واحد، حيث تفنن البعض في رسم صورة جميلة عن مستقبل المنطقة، من خلال هذا المتنزه وما يرافقه من المطاعم العصرية والتقليدية والمركب السياحي الذي يشمل مسبح وبيت للنشاطات الجبلية وفضاء للراحة والتنزه. كما أن مركز الصيد القاري بمنطقة ”فرضوة” بسيدي مروان لازال ينتظر التجسيد، فهو أيضا، بحسب القائمين على الفكرة، سيشمل وحدة لإنتاج الجليد وبيوت تبريد ووحدة إنتاج عتاد ومواد الصيد، بالإضافة إلى مسمكة ومجمّع سياحي يضمن العديد من النشاطات المختلفة ويضم فنادق ومطاعم وغيرها. 
تلوث و«توحّــــل” وانعـــــــــــــدام سياج الحماية
عانى سد بني هارون في المدة الأخيرة من مشكلة التلوث ونفوق العشرات من الأسماك، وهو السبب الذي ردّه المسؤولون إلى استعمال المبيدات والأسمدة من قِبل الفلاحين، في حين قالت مصادر أخرى بأن الأمر يتعلق بتسرب كميات من مياه الصرف الصحي، وبين هذا وذاك، فإن السد يعاني فعلا من التلوث بفعل بعض الممارسات المشينة، كرمي الفضلات ومخلفات البناء والجيف بمنطقة سيدي مروان، زيادة على مواصلة بعض الفلاحين استغلال الأراضي المترامية على ضفاف السد عبر 245 ألف هكتار، ومواصلة حرثها واستعمال المبيدات والأسمدة رغم أنه تم تعويضهم في سنوات فارطة في إطار تأميم الأراضي للمصلحة العامة، وهو ما يتسبب في انجراف التربة التي تزيد في توحّل السد ما لم تتوقف مثل هذه الممارسات، والتي تستمر رغم أن والي ميلة أصدر قرارا بمنع كل النشاطات المهددة لسد بني هارون بالتوحل والتلوث، خاصة حرث الأراضي الواقعة في محيط السد وتفريغ زيوت المحركات. 
ومع أنه تم رصد مبالغ ضخمة من قِبل مصالح الفلاحة والغابات للتشجير وفتح مسالك وتثبيت التربة وحمايتها من الانجراف وتصحيح الضفاف إلا أن ذلك لا أثر له، زيادة على تواصل التغاضي عن عملية تسييج محيط السد كما هو متعارف عليه عالميا، وهي العملية التي من شأنها أيضا ضمان سلامة أطفال البلديات المحيطة به، حيث سجلت سابقا العديد من حالات الغرق.
قـراصنـــــــــة يعـبثـــــــــون بأمــــــن الســــــد
يشتكى الصيادون الشرعيون، الذين يملكون رخصة صيد بسد بني هارون، من ممارسات مجموعة من الأشخاص الذين يقومون بنهب الثورة السمكية المتواجدة بالسد والتي بدأت في التناقص بشكل محسوس، باستعمال قوارب ذات محرك، حيث لم يستطع أي أحد وقفهم رغم عديد الشكاوى التي تقدموا بها للجهات المسؤولة، حتى إنهم أطلقوا عليهم لقب ”القراصنة” لسطوتهم ونوع الممارسات التي يقومون بها.
وعلاوة على ”سرقة” الأسماك التي يصطادها الصيادون الشرعيون، فهؤلاء القراصنة يقطعون شباك الصيد التي يتجاوز ثمنها 15 مليون سنتيم. وقال عدد من الصيادين : إن هؤلاء الأشخاص الغرباء يعملون بكل حرية رغم عدم حيازتهم لرخص الصيد، ويقومون باستفزازهم بالادّعاء أن لهم ”أكتافا” تحميهم. 
وذكر الصيادون أن ”القراصنة” يعلمون بكل التفاصيل عن خروج دوريات أعوان وكالة السدود وساعات عملهم، وكأن شخصا ما يزوّدهم بتوقيت الدورية للهروب بسرعة دون ترك أي أثر يدينهم. وزيادة على ذلك، ذكر الصيادون بأن ”القراصنة” يعرّضون السد يوميا لخطر التلوث، جراء قيامهم بالقتل الوحشي للأسماك، وتركها أحيانا في الشباك لأيام، ما تنتج عنه روائح كريهة ملوثة.
كما عبّر بعض الشباب الذين حصلوا على قروض بنكية بعشرات الملايين من وكالتي دعم الشباب ”أونساج” و كناك” التي انتشلتهم من البطالة، أنهم يتفاجأون ببعض الأشخاص يعرضون أسماك السد بأثمان باهظة عكسهم تماما، حيث يبيعونها بأكثر من 250 دينار للكيلوغرام، بينما يبيع الصيادون سمكة تزن 10 كيلوغرامات بـ400 دينار فقط، رغم التزامهم بتسديد ديون الدولة، وهو ما يتسبب، حسبهم، في حرمان المواطنين من التلذذ بأسماك السد الشهية، ما جعل هؤلاء الصيادين يناشدون السلطات دعمهم والإسراع في إنجاز مركز الصيد، وتوفير المزيد من الحماية من قِبل وكالة السدود ومراقبة حركة الدخول والخروج. كما طالبوا بمحلات لبيع الأسماك التي يصطادونها وغرف تبريد لحفظها، والتنويع في أصناف الأسماك التي تزرع، وكذا تزويدهم بشباك ذات أعين كبيرة، لأن الصغيرة التي يعملون بها حاليا تصطاد الأسماك الصغيرة فقط، ما يهدد بالقضاء على عملية التبويض والتكاثر. 
مروّجـــــون يستعـملـــــون قــــوارب لنقــــــل المخـــــدرات
كشفت بعض المعلومات، عن لجوء بارونات المخدرات بولاية ميلة إلى استغلال الحوض المائي الشاسع لسد بني هارون لتمرير المخدرات، بسبب التضييق الأمني الشديد الذي فرضته مختلف المصالح المختصة في محاربة هذه الآفة. 
وحسب إفادة بعض السكان القاطنين في محيط السد، فإنه تم تداول معلومات بشأن قيام ”باعة الموت” باستعمال قوارب لنقل المخدرات القادمة حتى من ولايات مجاورة كقسنطينة وجيجل، ليقوموا بتوزيعها على المستهلكين الصغار في البلديات التي تحيط بهذا السد العملاق الذي يتربع على مساحة تقارب 3900 متر مربع، وترامي ذراعيه من بلدية بني حميدان بقسنطينة إلى غاية بلدية آراس بميلة، مرورا ببلديات الڤرارم وسيدي مروان وزغاية وباينان وحتى حدود بلدية الرواشد، وذلك تفاديا للوقوع في الحواجز الأمنية التي تقيمها مصالح الأمن على مستوى مختلف الطرق والمناطق الحضرية بالولاية، والتي مكنت من حجز كميات معتبرة من هذه السموم في عمليات نوعية تم تنفيذها خلال الفترة الأخيرة.
كما أكدت المصادر نفسها استعمال قوارب خشبية ومطاطية خاصة بمروجي المخدرات، حيث يتم تمويهها وإخفاؤها بعيدا عن الأنظار، مع الحرص على تمرير المخدرات على فترات متباعدة تفاديا للسقوط في كمائن الأمن وإبعادا للشبهات التي قد تجعل المواطنين يبلّغون عن تحركاتهم، حيث كشفت مصادر أمنية، في هذا الصدد، قيام عناصر من الأمن بنصب كمائن والمرابضة في أماكن قريبة من محيط السد لفترة فاقت الشهر بعد ورود معلومات بهذا الخصوص، من أجل الإيقاع بهؤلاء المروّجين، لكنهم لم يلاحظوا أي نشاط مشبوه ولم يعثروا على أي شيء يثير الريبة.
وفي حين لم تؤكد جهات أمنية رفيعة هذه المعلومات أو تنفيها، إلا أن العديد من المؤشرات توحي باعتماد ”بارونات” المخدرات على هذه الطريقة الجديدة التي تمكّنهم من تمرير بضاعتهم بكل سهولة بعيدا عن أعين الأمن، وهو ما يفسره الارتفاع المتزايد في قضايا المخدرات التي تسجلها مصالح الشرطة والدرك في البلديات الواقعة بمحيط السد العملاق، والكميات المعتبرة التي يتم حجزها من حين لآخر.
للإشارة، فإن سد بني هارون ورغم قيمته وحجمه إلا أنه لا يزال يفتقد لسياج الحماية، وهو ما تسبب في بروز عدة ظواهر، كالرمي العشوائي للنفايات ومخلّفات البناء في محيطه، إضافة إلى تسلل غرباء للصيد فيه بطريقة غير شرعية، ما أثر على نشاط الصيادين الذين يملكون رخصا لمزاولة نشاط الصيد. 
وبين واقع وآفاق السد، تبقى الكثير من الخطوات والأشواط التي يجب قطعها، فالإمكانيات التي تحوزها هذه المنشأة قادرة على خلق حيوية اقتصادية فعلية بالمنطقة، إذا تضافرت الجهود والأفكار البناءة لإعطاء هذا السد حجمه الحقيقي الذي يستحقه. والدولة مطالبة أكثر من أي وقت قد مضى للتدخل بقوة من أجل حمايته وتحقيق المشاريع الاستثمارية الحقيقية التي تدرّ الكثير. كما ينبغي أن يلتفت أصحاب المال والأعمال للقدرات الهائلة التي يتوفر عليها سد بني هارون، والتي أثارت إعجاب حتى مستثمرين من الدول الأوروبية لما لمسوه من موقع استراتيجي جذاب وجميل يغري بإنجاز مشاريع سياحية وترفيهية ورياضية ذات جدوى. وما يمكن قوله إنه إذا بقي الحال كما هو الآن فلن يتخطى هذا السد كونه مجرد ”بركة مائية كبيرة” ليست لها آفاق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.