شهادة علي بن فردية حول قضية العقيد شعباني - الجزء الثاني -

أحمد بن شريف هو أشدّ ضباط فرنسا كُرهًا لشعباني

 كان يصف ضباط فرنسا بـ"أبناء فرنسا الذين لن يخونوا أمّهم"

المجاهد علي بن فردية
يُواصل المجاهد علي بن فردية المدعو الصحراوي إبان الثورة والحارس الشخصي للعقيد محمد شعباني إلى ما بعد الاستقلال، شهادته التاريخية حول شخصية الرجل، مؤكدا أن من قتل شعباني هم ضباط فرنسا، وأن هواري بومدين ما هو سوى منفذ لعملية الإعدام، ويكشف أنّ العقيد رحمه الله كان يفضّل أعمال بعض "القيّاد" الذين تعاونوا مع الثورة، على ضباط فرنسا، حيث وصفهم شعباني أنهم "خطرٌ على الثورة ومستقبل البلاد، ويجب استئصالهم".

لماذا تلفق التهمة لضباط فرنسا بقتل العقيد شعباني؟
هي ليست تهمة، وإنما حقيقة لأن العقيد شعباني كان يجهر بكرههم ويقول يجب استئصال هؤلاء  لسببين: الأول أن الضباط لم يلتحقوا بالثورة، إلا بسنة قبل الاستقلال كما التحق عدد منهم قبل شهور فقط من الاستقلال، أي في الوقت بدل الضائع، بالرغم من الاتصال بهم من قبل  لتدعيم الثورة ورفضهم ذلك، والثاني أنهم يمثلون الوجه الآخر لأمهم فرنسا ودسائسها.

هل هم سيّئون إلى هذه الدرجة؟
هذا ليس رأيي الشخصي، وإنما وجهة نظر العقيد شعباني، كان يقول لنا إن أعمال بعض "قيّاد" فرنسا -والمقصود بهم "الحركى"- أولى من ضباط فرنسا، لأن عددا كبيرا من "القياد" قدّم للثورة مساعدات جمة فمثلا "القايد العيد" ولقبه بوسعيد رحمه الله في ورڤلة سرب بندقيته الشخصية إلى الثورة وتسلّمها منه شعباني عن طريقي شخصيا، وقال لي شعباني بالحرف الواحد "سلّمه وصلاً بذلك"، بالرغم من أن البندقية كانت مسجّلة باسم "القايد" لدى السلطات الفرنسية سنة 1960، ثم ادّعى "القايد" أنها ضاعت منه في الصحراء، وبعدها سلمته فرنسا بندقية ثانية، ناهيك عما قدّمه من رصاص، كما نصح البعض في جهات معينة بعدم الخروج، كلما حاولت فرنسا تمشيط  المكان، حتى لا ينكشف أمر بعض المجاهدين، وأنا صراحة في بعض الأحيان أختبئ في بيت "القياد" حتى لا تطاردني فرنسا، زيادة على قام به بعض الأطباء المتعاونين مع فرنسا ورؤساء البلديات ومعاونيها وآخرين، إن قصص وحكايات هؤلاء مع الثورة وما وصل إلى شعباني من أموالهم وعملهم لفائدة الثورة جعلته يشعر بمعاناتهم تجاه فرنسا، كونهم يعملون إجباريا، فمن جهة يعاونون فرنسا كونها المعيل، ومن جهة يعملون مع الثورة، في حين كان شعباني متأكدا أن ضباط فرنسا لم يقدّموا سوى النزر القليل للثورة، ويخاف من تسريب أسرارها، ويشك في أن فرنسا أرسلتهم كمخبرين وطلبت منهم  اختراق الثورة، لذلك توجس منهم خيفة، ولم يثق فيهم بالرغم من بقائهم ضمن عناصر الجيش، كان يسميهم "أبناء فرنسا الذين لن يخونوا أمهم" وهو ما جلب له عداوتهم.

من خطط للتخلص منه؟ وهل وصلته أخبارٌ قبل إعدامه؟ 
سبق وأن حذر عددٌ من العقداء شعباني من وصول كلامه إلى ضباط فرنسا، لكن الرجل لم يكن يخشى أحداً، وهو لم يخف من فرنسا والحلف الأطلسي فكيف يخاف من أبناء فرنسا؟ بشجاعته المألوفة وصلابة موقفه ورأيه لم يجرؤ أحدٌ من هؤلاء الضباط على الوقوف أمامه، وحتى الزعماء بما فيهم بومدين كان يخافه كثيرا، أو الحديث بصوت عال في حضرته، لكن وقوف بومدين رحمه الله معهم وتأييده لهم حبا في المنصب جعلهم أكثر قوة، بينما كان شعباني يقول "نحن خَدم الشعب، ولسنا خدم فرنسا، والصحراء تمثل عصب البلاد من الناحية المادية -ويقصد البترول- لن نفرّط فيها لفرنسا وضباطها".
شعباني أبلغ جميع القادة بخطورة ضباط فرنسا على استقلال البلاد، لكنهم لم ينصفوه ولا أحد استمع إليه، وهو ما اعتبره "حڤرة" في حقه وحق الشعب الذي جاهد من أجل إخراج فرنسا ومن عاونها وليس الخروج من النافذة والدخول من الباب وبقاء الاستعمار بأشكال أخرى.
ومعلوم أن العقيد أحمد بن شريف كان أشدّ ضباط فرنسا كرهاً لشعباني، وهو من نفذ حكم الإعدام بمساعدة بعض معاونيه، ولما مسكوا بشعباني في جويلية 1964 بأمر من هواري بومدين، اعتقلوني أنا كذلك في ورڤلة، رغم أني كنت في هذه السنة قد طلقت الجيش، حيث استنطقوني بطريقة مهينة بأمر من بومدين وزير الدفاع الوطني في ذلك الوقت، وأرادوا أن يفتكوا منّي تصريحا ضد العقيد شعباني فرفضتُ بصفة مطلقة، وظلوا يضغطون عليّ لأيام قبل أن يخلوا سبيلي.

قلت لي مرة إن شعباني له فضل على بن بلة كيف ذلك؟ 
نعم، لقد كلّفني مرة العقيد شعباني رحمه الله بمهمة إلى العاصمة من أجل نقل المجاهد عمر صخري إلى بن بلة لتهريبه إلى جهة مجهولة، فقام صخري بهذه المهمة، ولما انتهت بنجاح فهمت من صخري، أن شعباني خطط لمساعدة بن بلة على الهروب من قبضة فرنسا ثانية، بعد أن دبر له فكرة الهروب بالزيّ النسائي ونجحت الخطة، لكن بن بلة ومن معه خاصة بومدين، هم من أعدموا شعباني ونفذ العملية ضباطُ فرنسا، لكن الله انتقم منهم، حيث جهّز بومدين والعربي بلخير وبن شريف قبر شعباني قبل المحاكمة الشكلية التي وُصفت بالعار في حق أصغر عقيد في العالم في تلك الفترة.

هل تعتقد أن شعباني تمرّد على بومدين أم العكس؟
بومدين تمرد على شعباني وليس العكس، والحقيقة أنه كانت بين الرجلين مواقف متناقضة؛ في إحدى المرات بعد الاستقلال زار بومدين القيادة السادسة، وكنت من بين الحضور رفقة العقيد شعباني، فنزل بومدين إلى مخزن السلاح لمعاينة الشحنات، بينما كنا نحن الحراس في الخارج، فسمعت بومدين يرفع صوته على شعباني ويقول له "جيشي أفضل من جيشك"، فانفجر شعباني في وجهه، قائلا له "جنودي لم يحاربوا على الحدود أو يتلقوا الصدقات، لو أمسكتَ بجندي من جنودي ونزعتَ لباسه لاكتشفت لباسه الجلدي الثاني من شدة الوسخ و(التمرميد) وهؤلاء هم جنود الجزائر الذين أعوّل عليهم وليس من كانوا على خط التماس"، فسكت بومدين وخرج الاثنان من المخزن وقد كان القلق والاحمرار باديين على وجه بومدين.
هذا الأخير كان يفضل ضباط فرنسا على بقية الجنود، وهذا ما أنكره شعباني بكل صراحة وعبّر عنه في أكثر من خطاب في بسكرة وخارجها.

كان يقول أيضا يجب تطهير الجيش من هؤلاء؟
هو لم يكن يتستر على هذا، بل يجهر به أمام الملأ، وشعباني أبلغ جميع القادة بخطورة ضباط فرنسا على استقلال البلاد، لكنهم لم ينصفوه ولا أحد استمع إليه، وهو ما اعتبره "حڤرة" في حقه وحق الشعب الذي جاهد من أجل إخراج فرنسا ومن عاونها وليس الخروج من النافذة والدخول من الباب وبقاء الاستعمار بأشكال أخرى.

كيف أشعر شعباني الحكومة المؤقتة بما يحدث؟ 
أنا لم أكن في الإدارة بقدر ما كنتُ ملازماً له يومياً في الميدان إلى غاية نهاية 1963، لكن قيل لي إن العقيد رحمه الله أخطر الحكومة المؤقتة بما يقوم به البعض من تغييرات دون مشاورة، حيث أنه في صيف 1962، أبرق شعباني رسالة إلى الحكومة المؤقـتة تتحدث عن أنه من يوم 19 مارس 1962، أصبحت بعض العناصر تتحدث باسم الحكومة المؤقـتة، وتهمّش عددا من المسؤولين والمجاهدين الذين ساهموا في الثورة، وتعوضهم بأشخاص أعداء للشعب.

لكن ما علاقته كعسكري بالحكومة المؤقتة التي تضم سياسيين؟
شعباني أراد أن ينبه بأنّ ضباط فرنسا يتصرفون وكأننا لم نحصل على الاستقلال على الإطلاق، وأصبحوا ينصّبون أقرباءَهم في مراتب حساسة في الجيش والمناصب المدنية، وهم في الأصل "حركى" وخونة بشهادة سجلّ الثورة والشهود، وهذا ما حزّ في نفسه فظل يردد أن "البلاد سوف تذهب إلى الهاوية مع هؤلاء الأشخاص" لكن لا بن بلة ولا بومدين كان يقبل بمثل هذه النصائح.
لا، شعباني لم يكن يتدخل في شؤون الحكومة المؤقتة، وكان جديراً بأن يكون وزيرا للدفاع فيها، لكنه أراد أن ينبه بأنّ ضباط فرنسا يتصرفون وكأننا لم نحصل على الاستقلال على الإطلاق، وأصبحوا ينصّبون أقرباءَهم وأصولهم في مراتب حساسة في الجيش والمناصب المدنية، وهم في الأصل "حركى" وخونة بشهادة سجلّ الثورة والشهود، وهذا ما حزّ في نفس شعباني رحمه الله، وظل يردد أن "البلاد سوف تذهب إلى الهاوية مع هؤلاء الأشخاص" لكن لا بن بلة ولا بومدين كان يقبل بمثل هذه النصائح.

يعني أنه أراد أن يمسك قبضته على كل المنافذ؟
لا، لا.. أعرفه، لم يكن يحب المسؤولية، بقدر ما كان يحب الوطن ويخاف عليه، ويقول يجب أن لا نخسر الشعب الذي وقف معنا ضد فرنسا، وأن وجود ضباط فرنسا ومعاونيها في مراتب عليا سوف يجعل الشعب يحكم على الجميع بالخيانة العظمى بما في ذلك الشعب في الخارج.

لكن قلت لي إنه يفضل بعض "الحركى" على ضباط فرنسا؟
لم أقل كان يفضّل "الحركى" بل يفضل بعض أعمالهم تجاه الثورة، وما قاموا به من مساعدات أفضل بالنسبة إليه من ضباط فرنسا الذين لم يقدموا أي شيء سوى الاستحواذ على المناصب، ظل يردد بعد الاستقلال يجب أن تقفوا مع المدنيـين حتى ينصروننا يوم الاستفتاء حول تقرير المصير، هذا هو هدفه وليس العكس، لكن تقرّب بومدين من ضباط الجيش الفرنسي لم يكن سهلا، وهو لم يكن يعجبه خطاب شعباني، خاصة الذي ألقاه في مسعد بالجلفة، حين قال إن "عملاء فرنسا دخلوا جيش الحدود"، ومعروفٌ أن بومدين كان يقود جيش الحدود، لذلك ازداد حقدُ بومدين عليه، فقام بهيكلة الجيش وأصبحت الولاية السادسة هي الرابعة ونقلها إلى ورڤلة، ثم عزل شعباني لأنه طلب منهم صراحة تطهير الجيش من ضباط فرنسا، خاصة الذين لم يلتحقوا بقوى الثورة في الداخل.

هل تعتقد أنه سببٌ كاف لإعدام عقيد شاب يكره فرنسا؟  
صراحة ليست هناك أسبابٌ واضحة لإعدامه. بعض من الغيورين اتهموه بالانفصال، لكن قضية تطهير الجيش من ضباط فرنسا هي المشكلة حقا، وهم يعرفون الدواعي الحقيقية لإعدامه لأنه يكرههم، ولو عرفتم شعباني عن قرب مثلي سوف تـتأكدون أنه لم يكن طمّاعا أو شريرا أو متسلّطا، بقدر عزمه على قول الحق، ورأيه يقوله ولا يخشى لومة لائم، بومدين كان كلّما وجد شخصًا ينافسه يحاول تصفيته، وضباط فرنسا ساعدوه على هذه المهمة، لم يكن بمقدور أي مجاهد حرّ جاهد من أجل تحرير البلاد أن يقـتل أخاه من أجل منصب، فأين هو بن بلة وبومدين والبقية تأتي؟ كلهم دُفنوا أو سوف يُدفنون تحت التراب.

يقال إنه طلب منهم تسيير قيادة أركان الجيش جماعيا وهذا لم يعجبهم؟
لم أتذكر هذا على الإطلاق، غير أني سمعت البعض يقول إن شعباني عرض على بن بلة بعد الاستقلال أن تُسيّر قيادة أركان جيش التحرير بصفة جماعية لمدة معينة، وتظل دورية، على أن يُختار القائد من بين الأعلى رتبة، بغية النأي بالجيش عن الصراعات الداخلية أو الانقلابات التي كانت سائدة في بعض الدول في تلك الفترة، لكن هذا المقـترح ضاعف من غضب وشدة كره هواري بومدين لشعباني، حسب رواية البعض.

متى ظهر الصراع جليا بين بومدين وشعباني تحديدا؟ 
خلال المؤتمر الرابع لحزب جبهة التحرير، رفع العقيد شعباني تقريرا يتضمّن التماس تطهير الجيش مجددا ممن سماهم "الغرباء" أي ضباط فرنسا، لكن بومدين رفض ذلك وشعر بأن شعباني أضحى ينافسه، فقام بتعيـين الرائد عمار ملاح خلفاً له في قيادة الناحية العسكرية الرابعة بورڤلة، وهنا بدأت عملية التفكير في التخلص منه.
أعتقد أنه اشتدّ في صيف 1964، لكني كنتُ ساعتها خارج الخدمة العسكرية وموظفاً في بلدية ورڤلة وأتابع الأخبار عن كثب، حيث أنه خلال المؤتمر الرابع لحزب جبهة التحرير، رفع العقيد شعباني تقريرا يتضمّن التماس تطهير الجيش مجددا ممن سماهم "الغرباء" أي ضباط فرنسا، لكن بومدين رفض ذلك وشعر بأن شعباني أضحى ينافسه، فقام بتعيـين الرائد عمار ملاح خلفاً له في قيادة الناحية العسكرية الرابعة بورڤلة، وهنا بدأت عملية التفكير في التخلص منه.

هل حاول شعباني تكوين جيش آخر في الصحراء ضد بومدين؟
لم يتصل بي شعباني في تلك الفترة، وخبر اعتقاله وصلني من الغروس في بسكرة، وبعد أيام قامت مصالح الشرطة في ورڤلة باعتقالي وتفتيش منزلي وطرحت عدة أسئلة حول علاقتي به، وهل اتصل بي بعد تنحيته، وماذا كان ينوى القيام به وغيرها من الأسئلة؟ وضغطوا عليّ لأيام مع الترهيب والتعنيف بغية افتكاك جديد لصالحهم. 
وبعد أيام، سمعت بتنفيذ حكم الإعدام في حق العقيد شعباني، فأصبت بالحمى ومرضت مرضا شديدا، كوني أعرفه جيدا، وقضيت معه أروع أيامي، وهو الذي تعلمنا منه الإخلاص وحب الوطن ورفض الذلّ وليس العكس، رحم الله الشهداء الذين سقطوا لنعيش هذه اللحظات التاريخية بكل تناقضاتها المعيشية في دولة توحّدت لإخراج الحلف الأطلسي، وتحاول أن تفرّقها الفتن والمناصب الزائلة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.