ملف تمرد الأفافاس على بن بلة عام 1963 - الجزء الأول -

حدث بمنطقة القبائل بين 1963 و1965 وأوقع مئات القتلى / الجزء 1

فتح ملف التمرد المسلح لـ"الأفافاس" على بن بلة

 بلقاسم عجاج
آيت أحمد خلال الأحداث (يمين الصورة)
آيت أحمد خلال الأحداث (يمين الصورة)

في أوائل أكتوبر عام 1963 بدأت صداماتٌ مسلحة بين الآلاف من أنصار جبهة القوى الاشتراكية "الأفافاس" بقيادة زعيمها حسين آيت أحمد والجيش في عهد الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، ودامت إلى غاية 16 جوان 1965 وأفضت إلى مقتل أزيد من 500 من مناضلي "الأفافاس" وجلُُّهم من قدماء المجاهدين، وعدد غير معلن عنه من العسكريين في صفوف الجيش، قبل أن يتمّ إخماد تمرد الأفافاس بالقوة.
وبرّر آيت أحمد ورفاقه لجوءهم إلى حمل السلاح، برفض نظام بن بلة فتح المجال السياسي لأحزاب أخرى غير جبهة التحرير الوطني وتشبّثه بنظام الحزب الواحد، في حين كان آيت أحمد ومحمد بوضياف وآخرون يرون أن مهمة جبهة التحرير قد انتهت بتحقيق هدفها بتحرير الجزائر ولا بدّ من وضعها في المتحف وفتح المجال للديمقراطية والتعددية السياسية، وهو ما رفضه بن بلة قطعاً بذريعة أن الجزائر حديثة عهدٍ بالاستقلال والظرف غير ملائم لفتح المجال للتعددية الحزبية التي قد تُفضي إلى بروز خلافات وصراعات سياسية تهدّد الدولة الناشئة الخارجة لتوّها من ربقة الاستعمار. وحينما لجأ آيت أحمد ومجموعة من كبار المجاهدين المعروفين وبعض القادة التاريخيين للولايات إلى تأسيس "الأفافاس" خارج إرادة بن بلة، وحمل عناصرُه السلاح تحسّباً لهجوم الجيش على معاقلهم بجبال منطقة القبائل، لم يكن هناك مناص من المواجهات المسلحة التي دامت عامين وانتهت باخماد حركة آيت أحمد    . 
وبرغم مرور نحو نصف قرن على تلك الصدامات بين رفقاء الجهاد، إلا أن الأضواء لم تُسلّط عليها بشكل كافٍ، وتعرّضت لتعتيم متعمّد، وبقيت أسرارُها غير معروفة للكثيرين، بل إن الأجيال الجديدة لا تكاد تعرف أصلاً بأن هناك مواجهات مسلحة وقعت عقب الاستقلال بين مسلحي آيت آحمد والجيش وأوقعت مئات القتلى  .
وانطلاقاً من اقتناعها بأن ما حدث قد أصبح تاريخاً ولم يعد سياسة، وأنه من حق الأجيال الجديدة أن تعرف تاريخها، فقد ارتأت "الشروق" تسليط الضوء على هذا الملف من خلال إجراء حوارات مع بعض صانعيه، ومنهم الرائد لخضر بورقعة، قائد الولاية التاريخية الرابعة، والذي كان أحد مؤسسي "الأفافاس" وكذا الغيمة الجيلالي، الوسيط بين مقاتلي الأفافاس والسلطة أثناء جنوح الطرفين إلى المفاوضات لإنهاء النزاع، وسي محند سعيد آكلي ابن المجاهد والقائد التاريخي محند أولحاج الذي قاد مقاتلي آيت أحمد في بداية الصدامات المسلحة قبل أن يتركه ويقرِّر خوض "حرب الرمال" مع الجيش ضد المغرب، وشهادات أخرى ستطالعونها تباعاً في الأيام القادمة.
 في ذلك الاجتماع ضُبطت القائمة النهائية من 16 عضوا وانتهى دور حزب بوضياف، ومن مهام الأفافاس التحذير من الاستغلال السياسي ووضع حدٍّ للفوضى والارتجالية، مع تنقية الجيش من عملاء فرنسا ووقف أعمال "زوَّار الفجر" مع إطلاق سراح جميع المعتقلين.
 عمد النظام إلى تقزيم دورنا وتشويهه، فأطلق دعايات مضلِّلة ضدنا مفادها أننا "عناصر مضادة للثورة" و"مشاغبة" و"جماعات بربرية عنصرية ترغب في فصل منطقة القبائل عن الجزائر؟"، وبتواجد الصحافة العالمية اتهمتنا حينها صحيفة عربية بـ"العمالة للعدو الإسرائيلي"، وقال عملاء العدو المندسون في الجيش بأننا جيش "الحرْكى والڤومية".

لخضر بورڤعة أحد مؤسسي الحزب عام 63 لـ"الشروق" / الجزء الأول
الأفافاس حاول تفادي المواجهة مع الجيش وبومدين فرضها عليه
حاوره: بلقاسم عجاج
في هذا الحوار، يكشف قائد الولاية الرابعة التاريخية، الرائد لخضر بورڤعة، عن دوافع تأسيس جبهة القوى الاشتراكية "الأفافاس" عام 1963، ويعيدها أساسا إلى الانقلاب الذي قام به جيش الحدود (جماعة تلمسان) بقيادة الرئيس الراحل هواري بومدين، على الولايات التاريخية للثورة بالداخل. ويتحدث بورڤعة بصفته أحد الأعضاء المؤسسين للأفافاس عن خلافه مع بن بلة، وصراع كرسي الحكم فجر الاستقلال، والصدامات بين الجيش ومقاتلي الأفافاس وكيفية انتهاء الصراع في جوان 1965 .
كنتَ من المؤسسين لحزب جبهة القوى الاشتراكية، كيف جاءت الفكرة؟
فكرة تأسيس الأفافاس تبلورت قبل تسمية الحزب نتيجة الأزمات المتتالية بعد توقيف إطلاق النار مع فرنسا في 19 مارس 1962، ومن هذه الأزمات: أزمة طرابلس في المجلس الوطني للثورة، وهو السلطة الشرعية، تقابله الحكومة المؤقتة السلطة التنفيذية، وعند خروج القادة أحمد بن بلّة ومحمد خيضر ورابح بيطاط وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف من السجن بفرنسا، التحقوا بنا في ظل أزمة قائمة داخل المجلس تبناها الجيش بقيادة هواري بومدين ضد الحكومة المؤقتة التي كانت شرعية، وهذه واحدة من أزمات متتالية، فوقع خلافٌ بين القيادة الشرعية وقيادة الأركان بزعامة بومدين، ومع توقيف القتال حصل الشرخ.

 قبلتم بمجلس تأسيسي لكن آيت أحمد برز كمعارض، فما هي دواعيه لذلك؟
ظهر بوضياف وكريم بلقاسم في تيزي وزو، وكان موقفنا أن العاصمة ليست تلمسان ولا تيزي وزو، قلت أستطيع لعب دور الوسيط، ولقد انقلب علينا الصادق باطل الذي كان وسيطا مع خيضر، فقد وعدوه بمنصب وزير لاحقا، فأصبحت لدينا ثلاث جبهات في كل من تلمسان، تيزي وزو وجبهة العاصمة، وبدأت المناوشات بالعاصمة إلى وقت دخل الآخرون (جيش الحدود) من الغرب والشرق.
وبينما كنا منشغلين بدور الوساطة، استحوذت جماعة تلمسان على الحكم، وبحكم نقص التجربة وفلسفة الكواليس، وافقنا على طرح بن بلّة وجماعته الذين اعتقدوا أنهم سيتحكمون في الأمر ويضمنون التوازن بوجود فرحات عباس، وطرحوا فكرة تأسيس مكتب سياسي مؤقت ثم نسير إلى الانتخابات، وبهذه الفكرة تحايلوا علينا وأحكموا قبضتهم.
وبعد توقيف فرحات عباس رئيس المجلس وسجنه مع نواب وشخصيات معارضة من خارج المجلس من بينهم بوضياف، الذي رفض تشكيلة المكتب السياسي وحتى المجلس التأسيسي من أول يوم، بداية من لقاء طرابلس، في هذه الفترة ظهر آيت أحمد ووقف ضد الاستحواذ على الحكم بالسلاح رفقة مجموعة أخرى، سنة 1962.

 كيف اكتشفتم آيت أحمد؟
في المجلس التأسيسي بتدخلاته ومواقفه، ولما تكونت المعارضة اخترناه ليكون رئيسا للمعارضة.

 وكيف أصبحت معارضا إلى جنب آيت أحمد؟
بدأت معارضتي في البرلمان بالتصويت بـ"لا" رفقة 11 نائباً فقط، وأُطلق علينا حينها اسمُ "المتمرِّدين"، ضد ترشيح أحمد بن بلّة رئيسا للجمهورية، كما عارضنا منح دينار واحد فقط في اليوم لابن الشهيد، في حين يُمنح ابن المجاهد أكثر من تلك النسبة، وتُمنح والدة الشهيد 90 دينارا شهريا، وقلنا من لا يحترم شهداءه لا يحترم وطنه، وللأسف كانت تلك هي المؤامرة، وانتهت بي تلك المعارضة في جبهة القوى الاشتراكية.
وكانت هذه ظروف تأسيس الأفافاس بعدما تورط نظام بن بلة ومخابرات بومدين في خطف رئيس الحكومة المؤقتة سابقا، فرحات عباس ورئيس مجلس النواب وقتها، كما ألقي القبض على بوضياف وصالح صوت العرب، وبوعلام أوصديق... ولُفقت لكل واحد منهم تهمة أهمها الإخلال بالنظام والتشويش.

 من رافقك للقاء آيت أحمد؟
بعد حملة الاعتقالات حاولت الاتصال بحسين آيت أحمد، والذي رابط في قرية على قمم جبال جرجرة يراقب عن بُعد.. وكان برفقتي الدكتور هرموش رمضان وعلي يحي عبد النور وأبو بكر بلقايد، وقد رفض آيت أحمد استقبالنا في بيته، وفضَّل أن يكون اللقاء في مقهى عمومي أمام أنظار العامة في سبتمبر 1963، في ميشلي، فقال: من معكم؟ فعرضنا عليه مجموعة من الأسماء النظيفة، على أن يترأس هو المعارضة، لكنه بمجرد سماع اسم كريم بلقاسم نهض معترضا وأعلن عدم موافقته دون أن ندري السبب. وبذلنا جهدا لإقناعه به فوافق عليه واشترط أيضاً أن ينضمّ إلى حركتنا كل أعضاء حزب بوضياف "بي أر أس"، وبهذا الاتفاق خرجت الأفافاس إلى الوجود.

 هل ذهبتم إلى كريم بلقاسم؟
ذهبنا إليه وأقنعناه بالتصريح بمجرد إعلان التأسيس، فلمَّا أُعلن عن تأسيس الافافاس التحق كريم بلقاسم من فرنسا، وعلقت الجرائد الفرنسية ومدحته كثيرا لأنه وزيرٌ في الحكومة ومفاوض ايفيان وقائد في ناحية، فحينها خاطب بن بلة الشعب من ساحة الشهداء، وقال لهم: "يوم تسمعون جرائد الغرب وجرائد فرنسا خاصة تشكرني، اعلموا أنني بعتُ الجزائر"، وأضاف "كريم بلقاسم"كْريم"-أي مجرم- مثل اسمه".

 كيف حصل التنسيق؟
اجتمعنا ثانية، بعد أسبوع واحد، وتخلف جمال بن حمودة والذي كان الناطق الرسمي باسم الولاية الرابعة، وفضل إعلام رئيسه بن بلة باسم المنظمة وأعضائها وبجميع الأسرار التي يعرفها قبل ظهورها إلى الوجود، لكن موقفه لم يؤثر في توازن الأفافاس، وفي ذلك الاجتماع ضُبطت القائمة النهائية من 16 عضوا وانتهى دور حزب بوضياف، ومن مهام الأفافاس التحذير من الاستغلال السياسي ووضع حدٍّ للفوضى والارتجالية، مع تنقية الجيش من عملاء فرنسا ووقف أعمال "زوَّار الفجر" مع إطلاق سراح جميع المعتقلين.
واشترط محمد أولحاج قائد الولاية الثالثة دخوله بدخول كريم بلقاسم، ووافقنا على رأيه بينما التحق بعضُ ضباطه دون علمه، وجاء بعض الضباط إلى ذلك الاجتماع بأسلحة وذخيرة قدموها لزعيم الأفافاس آيت أحمد، دون أن يطلب منهم ذلك، وقالوا: "إنها تساعدنا في الدفاع عن أنفسنا في حالة المداهمات أو تعرُّض المنظمة لمكروه..". وقضى الاتفاق بتسليم الأسلحة للنقيب موسى للتمويه، وكان في ثكنة البليدة وعلى اتصال دائم بآيت أحمد.
وجاء النقيب إلى المكان المحدَّد لتسلُّم الأسلحة وكان بملابسه العسكرية، فأثار ذلك هلع المجموعة التي انتقلت إليه واعتقدت أنها تورطت في كمين نصَّبه لها الأمن العسكري، فسلموا الأسلحة واتصلوا بقائدهم أولحاج، الذي لم يطلع على وضعهم داخل الأفافاس، وكان بلعيد يشغل منصب رئيس دائرة الأربعاء ناثي راثن فخشي على نفسه، فكان أكثر الناس حرصا على انضمام أولحاج فدفعه دفعا فانضم أولحاج مكرها، لأنه عزم أن لا يتحرك بحكم أنه قائدٌ للناحية الخامسة آنذاك حتى لا يُتهم بالجهوية.
وقد عمد النظام إلى تقزيم دورنا وتشويهه، فأطلق دعايات مضلِّلة ضدنا مفادها أننا "عناصر مضادة للثورة" و"مشاغبة" و"جماعات بربرية عنصرية ترغب في فصل منطقة القبائل عن الجزائر؟"، وبتواجد الصحافة العالمية اتهمتنا حينها صحيفة عربية بـ"العمالة للعدو الإسرائيلي"، وقال عملاء العدو المندسون في الجيش بأننا جيش "الحرْكى والڤومية"، فاضطررنا إلى الخروج إلى الشعب للتأكيد على نوايانا، وأن الأفافاس ليس عميلا ولا انفصاليا فاحتضنتنا الجماهير، وأصبحنا نتجول في الأماكن العمومية بزيّنا العسكري وشعارنا المميز "أف أف أس"، وحمانا الجيش وسهّل مرورنا من منطقة إلى أخرى وهو ما خشيه بن بلة وبومدين.

 وكيف تعاطى بومدين وبن بلة مع هذه الوضعية؟
قاما بافتعال معارك هامشية لجرِّ منظمتنا إلى حرب أهلية، فأصدرنا أوامرنا إلى مقاتلينا بعدم الانسياق وراء المؤامرة، وعدم الدخول في صدامات مع أفراد الجيش، ولم نقطع الاتصال مع النظام، وحدث أول اتصال مباشر مع مبعوثي بومدين ببلدة "جمعا سريج" شرق مدينة تيزي وزو، وقاد سعيد عبيد وفد النظام، وجاء على رأس قوات كبيرة معززة بأسلحة ثقيلة، فاشترطنا أن تحل قضية الديمقراطية وتوضع قيادة الجيش بين أيادي المجاهدين وليس مدسوسي الجيش الفرنسي على أن يحتفظ بومدين بوزارة الدفاع، واقترحنا الطاهر الزبيري وشعباني، فاقتنع عبيد بوجهة نظرنا وعاد راضياً إلى العاصمة، ويُعتقد أنه عرضها على مسؤوله المباشر فقط وهو بومدين ولم يعرضها على بن بلة، فكلفه بومدين ثانية بالتفاوض باسمه، وصاحبه الرائد زرڤيني، وقبل وصول تيزي وزو ناور زرڤيني من وراء ظهر سعيد عبيد.

هل تقصد هنا وجود مؤامرة ثانية خطّط لها بومدين؟
نعم، فقد قام زرڤيني بإرسال شاحنتي جنود مدنيتين في مهمة زعم أنها سرية في مدينة عزازڤة، وأصدر أوامرَه في نفس الوقت إلى مجموعة ثانية من الجنود كلفها بمهمة التصدي للمجموعة الأولى مدَّعيا أنها من أتباع جبهة القوات الاشتراكية وتنوي القيام بأعمال تخريبية في مدينة عزازڤة.. وهكذا بوغتت المجموعة الثانية بالشاحنتين تمرَّان فسارعت إلى إطلاق النار عليها واشتبك الجمعان.

 هل وقع ضحايا؟
سقط من الجانبين ثلاثة قتلى وجُرح عددٌ كبير من الجنود، وقبل انكشاف سر الكمين أمر قائد المجموعة جنوده بالانسحاب قبل اكتشاف أمرهم، وما أن بلغ الخبر سعيد عبيد حتى اشتدَّ غيظُه وتوهَّم أن الأفافاس يفتعل الأدوار ليورّطه وقواته، فشك في أن لا يصدِّقه بومدين عن مهمته الفاشلة الأمر الذي حمله على إرسال زرڤيني رقيباً على أعماله، ولم يعد يصدق أحداً، فجاء للقائنا مرة أخرى ليقف على الحقيقة، إلى أن استفاق ضمير أحد الجنود وكشف جميع أوراق المؤامرة بدقة.
                                                              يتبــــــــــــــــــع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.