المجاهد بورقعة : ضباط فرنسا التحقوا بالثورة ضمن مخطط الاستيلاء على الحكم - 2 -

 حوار مع المجاهد بورقعة - الجزء الثاني -

 ضباط فرنسا التحقوا بالثورة ضمن مخطط الاستيلاء على الحكم

  حاوره: عبد الحميد عثماني
   المجاهد لخضر بورقعة

 مجاهدون توفّوا في السجون بعد الاستقلال بتهمة تصفية الخونة!

 عائلات كانت تحتفي بعودة "الحركى" على طريقة استقبال حجاج بيت الله!

  جمعنا "الحركى" في الثكنات والسجون حماية لهم من الانتقام ولنحاكمهم لاحقاً، لكنهم فلتوا من العقاب العادل بفعل الفوضى السائدة.
 معلوم أن فرنسا إثر وقف إطلاق النار ركزت على نقل المعمرين الأوروبيين وتخلت عن "الحركى" باستثناء 5 من كبار العملاء، كيف هرب الآخرون وماذا كان مصير الباقين منهم هنا في جزائر الاستقلال؟ 
المؤكد أن أعيان "الحركى" تمكنوا من الفرار واللحاق بجحافل الاستعمار، وحملوا معهم المئات من أعوانهم ومقربيهم وذويهم من البداية، مثل الباشاغا بوعلام الذي رافقه عددٌ هائل من ناحية الشلف، وغيره كثير في الواقع، فيما هرب الآلاف أيضا في وقت لاحق عبر موانئ الجزائر المختلفة، لقد كانت الفترة الانتقالية التي طبعتها الفوضى والانقلاب على شرعية الحكومة المؤقتة (62 -63)، حيث طغى الصراع على السلطة، في غضون تلك الأشهر الساخنة والمتوترة، استغل هؤلاء الفرصة السانحة وحقبوا أمتعتهم نحو فرنسا تحديدا، لكن عددا معتبرا كذلك لم يغادر البلاد    .

ماذا كان مصيرهم، خصوصا أن هناك روايات كثيرة تتحدث عن تصفيات انتقامية طالتهم من طرف ذوي الضحايا والأسرة الثورية بشكل عام؟ 
هذا الكلام غير صحيح وتم ترويجه بهدف الإساءة إلى الثورة واستعمال ورقة "الحركى" ضد الجزائر، شخصيا لم أشاهد ولا سمعت عن أي عمليات تصفية مبرمجة ضدهم، إلا إذا كان في إطار فردي ومحدود، أؤكد لك أنه لم يصدر أي قرار لا مركزيا ولا محلّيا بهذا الخصوص مطلقا، بل بالعكس تماما، حين وقعت بعض التصفيات الفردية ضد بعضهم، بادرت قياداتُ الولايات بعزل "الحركى" في الثكنات والسجون لاسيما المشهورين منهم، حماية لهم من الانتقام، وعاد جزءٌ من هؤلاء إلى ممارسة حياتهم بشكل عادي فيما بعد، وبعضُهم ذهب للمشاركة في رد العدوان المغربي على حدودنا الغربية .

 فيما يخص قضية الحماية بالذات، هل صحيح أن بن بلة وبومدين أصدرا تعليمات إليكم بخصوص تأمين حياة "الحركى"، وما خلفية ذلك؟
لم نتلقّ أي تعليمات من أي طرف، لكن تصرفاتنا مع "الحركى" كانت منسجمة مع مضمون اتفاقيات إيفيان من جهة، حتى نحترم أنفسنا أولا. ومن جهة أخرى، كان تفكيرنا ينطلق من التأسيس لسلطة العدالة، لأننا أردنا أن نعطي الفرصة حتى تتهيكل الدولة الجديدة بمؤسساتها، ثم تحاكم هؤلاء وتطبِّق القانون، بدل إشاعة الفوضى من خلال الأعمال الانتقامية بشكل فردي قد تكون مظالمُها أسوأ، لكن للأسف هرم سلطة الثورة، أدخل البلاد في مرحلة الفوضى، وبالتالي فلت هؤلاء من العقاب العادل.

 هل صحيح أن بعض "الحركى" ممن حاولوا العودة، اعتقادا منهم أن الجزائريين قد نسوا القضية، لقوا مصرعهم في السبعينات؟
لا، لا... لم أسمع بمثل هذه الوقائع، وإن حصلت فأظنها محدودة جدا، وربما لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، لكن الذي أعلمه وأؤكده، أن عودة هؤلاء جوبهت باحتجاجات واسعة من طرف المجتمع، وأعطيك أحداثاً أعرفها جيدا في مليانة والبرواڤية مثلا، احتج السكان ضد المسؤولين على دخول "الحركى" إلى مناطقهم، لكن لم تحدث عملياتُ تصفية أو اعتداءات جسدية.

 وهل تمّ دخولهم إلى الجزائر بصفة نظامية؟
نعم، جزءٌ منهم عاد إلى أرض الوطن عبر الموانئ والمطارات والحدود، ويوجد من دون شكّ من ساعدهم في ذلك، من أقاربهم ومعارفهم، بل الأسوأ والمخزي، أن بعض العائلات كانت تحتفي بقدوم ذويها من "الحركى" كما يستقبل عامة الجزائريين الحجيج العائدين من بيت الرحمان، وأنا أعرف أحد الخونة قتل 14 مجاهداً خلال الثورة، دخل الجزائر ورافقه أهلُه في موكب احتفالي، بل رافقوه إلى المقبرة للوقوف على قبر والده الذي كان هو الآخر حركيّا خائنا، ما أثار حفيظة المواطنين ودفع بهم إلى الخروج إلى الشارع للاحتجاج على هذا السلوك الاستفزازي، ففرّ هارباً بجلده.

 سمعت من روايات متواترة أن مجاهدين دخلوا السجن بتهمة قتل الحركى بعد الاستقلال، هل تؤكد هذه المعلومة؟
للأسف هذا ما حصل، وأنا شخصيا حينما نقلت إلى سجن لامبيز بباتنة في 1970، وجدت مجاهدين مسجونين هناك، وكنت أعتقد قبل ذلك أنهم سقطوا شهداء في ساحة الشرف، لأُصدم حين اكتشفت أنهم كانوا خلف القضبان منذ 1962، وأذكر لك مثلا: المجاهد عبد القادر مطرف من مليانة، وهو ابن شهيد وأمه استشهدت كذلك، قام بتصفية "حركي" كان قد قتل والديه في زمن الثورة، فحُبس وظلّ في السجن حتى توفيّ في لامبيز، وعاشور رحماني أيضا من بريكة، كان في منطقتنا وحكم عليه بالإعدام من طرف فرنسا، وقمنا بتهريبه من سجن البليدة، ولم نلتق من وقتها إلى أن قابلني في سجن لامبيز في السبعينيات فتقدم نحوي ليسلم عليّ، فلم أتعرَّف عليه، حتى ذكرني باسمه وقال لي: "أنا عاشور رحماني"، فاستغربت الأمر، وبادرته بالسؤال: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فأجابني بحسرة: أنهم أدخلوه السجن بسبب اقتصاصه من "حركي" قتل والدَه خلال الثورة.

 ووفق أي قانون زُجّ بهؤلاء المجاهدين في السجن؟
للأسف تم اعتقالهم في عهد الحكومة المؤقتة بتهمة قتل "الحركى"، لكنهم أهملوهم وتركوهم في السجون دون محاكمة ولا حريّة، وبعضهم توفّي في محبسه، وحينما تولّى بوعلام بن حمودة وزارة العدل، راسلته شخصيّا عن طريق واسطة، وقلت له: "لا أريدك أن تتدخل لصالحي لأني فعلتها.. لكن أطلب منك أن تفرج عن المجاهدين الموقوفين منذ 1962 دون ملفات قضائية"، وأرفقت رسالتي بقائمة هؤلاء المحبوسين، لكن الوزير لم يردّ على رسالتي حينها.

 عرفنا تعامل السلطة الجديدة وقيادات الولايات التاريخية مع "الحركى"، بالنسبة للشعب في ذلك الوقت، هل كان متسامحا مع هذه الشريحة التي تسبَّبت في مآسيه وجراحه الغائرة؟
قطاعٌ واسع في الشعب كان يريد الانتقام لشهدائه، ولكنه احترم أوامر القيادة الثورية التي كان لها حضورٌ معنوي وسياسي كبير وسط المجتمع، أما في البداية فقد همّ الكثير بالهجوم على مراكز تجميع "الحركى" بنية القتل والتصفية.

 أنت تطرقت إلى نقطة مهمة قبل قليل تتعلق ببعض "الحركى" الذين خدموا الثورة من داخل النظام الاستعماري، نريد أن توضح لنا ذلك، هل كان العمل مهيكلا أم مبادرات فردية بطابع إنساني؟
نعم هذا موجود رغم أنهم كانوا قلّة، لكن كان هناك متعاونون مع الثورة من داخل "الحركى" أنفسهم، وهم فئتان: الأولى "حركى" في أصلهم تم توظيفهم لصالح الثورة، والثانية مجاهدون دفعت بهم القيادة بشكل سرّي جدا لاختراق جبهة العدو، حتى أن بعضهم يدفع حياته في تلك المغامرة الثورية، وقد حصل معي شخصيا، حيث اخترت أحسن مجاهد أثق فيه، ويمكنني إقناعه بسهولة لأداء المهمة ثم العودة إلى صفوفنا في الوقت المناسب، إذ ادعى هذا الأخير أمام الفرنسيين أنه قضى على  المحافظ السياسي زيتوني الذي كان مطلوبا من طرف سلطات الاستعمار في المنطقة، فقبلوه بينهم ووثقوا فيه، ليتحول بذلك إلى عين للولاية الرابعة على تحركات الجيش الفرنسي وعملائه، يزوّدنا بكل المعلومات الضرورية، لكن العملية فشلت، لأنه لم يطق تحمّل الوضع الجديد مع "الحركى"، حيث أبت نفسُه الثورية أن يتّصل بالسكان بصفته خائنا ويخطب في الأسواق وبين الشعب ضد المجاهدين، فهرب حاملا معه 3 بنادق رشاشة من نوع " mat 49 " ، لكنه حينما هرب عائدا للثوار، قابله مجاهدون لم يكونوا على علم بتكليفه من طرفي بالاندساس في صفوف العدو، فقتلوه، اعتقادا منهم أنه تنكَّر من قبل للثورة وجاء الآن للتجسس عليهم، لأني الوحيد الذي كنت على علم بتفاصيل المهمة الموكلة إليه.

 نعود إلى قضية مثيرة للجدل في ملف "الحركى"، وتتعلق بالعسكريين الذين التحقوا بصفوف ثورة التحرير في منتصف الطريق، وبعضهم في اللحظات الأخيرة من عمرها، هل استقبلتهم القيادات بطمأنينة أم ارتابت منهم، هل اندمجوا مباشرة في صفوفها أم مكثوا مدة تحت المراقبة، وكيف تمّ التحاقهم أصلا على المستوى التنظيمي والعسكري؟
هذا الموضوع أسال حبرا كثيرا، يجب أن نفرق أولاً بين مستويين من هؤلاء، الفريق الأول هم نخبة الضباط الجزائريين في المعسكر الفرنسي، والفريق الثاني هم عسكريون بسطاء من عموم الشعب كانوا في الجيش الفرنسي، لكنهم تراجعوا عن مواقعهم وقرروا أن يلتحقوا بكل عفوية بالثورة، فلم تكن لهم حسابات إستراتيجية أو مخططات سياسية، وقد استقبلنا الكثيرَ منهم في ولايتنا مثل باقي النواحي، فكانوا يفرّون بأسلحتهم وبعضهم تسلل إلى صفوف المجاهدين في قلب المعركة مع العدو، هؤلاء في العموم كانوا يندمجون عن طريق وساطات واتصالات مسبقة، وسوف أذكر لك قصة مؤثرة تعكس صدق نواياهم، فقد التحق بنا ثلاثة شبان يوم 18/09/1958، أحدهم شاوي من القليعة ينحدر من ولاية خنشلة، فتوجهنا يوم الغد أي 19 سبتمبر  للقيام بعملية رمزية استعراضية بمناسبة تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة، فنصبنا كمينا لقوات العدو، كان تقديرنا أن نواجه 4 إلى 5 شاحنات، فإذا بنا نجد أنفسنا أمام قرابة 40 شاحنة من الجنود، فجرح من المجاهدين خمسة أفراد ثم استشهدوا جميعهم، لا زلت أحتفظ بصورهم وأسمائهم فردا فردا، وكان من بينهم هذا الشاب بلقاسم الذي انضم إلى صفوف الثورة قبل 24 ساعة فقط، فكانت خاتمته الشهادة لصدق نيته وإخلاصه للوطن.

 ماذا الآن عن النخبة العسكرية التي كانت موالية لفرنسا قبل أن تلتحق بالثورة؟
فيما يخص هذه الشريحة، في الحقيقة أنا أقدم لك وجهة نظري فقط، لأني لا أعلم كل تفاصيل اندماجها، فهم التحقوا بالثورة عبر جيش الحدود، ولم يكونوا أبدا جزءا من مجاهدي الداخل والولايات، وبالتالي قناعتي الخاصة، أن فرنسا في المرحلة الثالثة (ماي 58 إلى مارس 62)، كيفت إستراتيجيتها العسكرية والسياسية وفق الأمر الواقع القائم على استقلال الجزائر على المدى القريب، وبمقتضى ذلك، منحت الاستقلال لمستعمرات إفريقية بناء على "طلب خطّي"، وتشكلت لديها تجربة من خلال تلك الدول الإفريقية التي ظلت حكوماتها الجديدة  تابعة لها بالمطلق، لأنها قامت باستدعاء نواب في الجمعية العمومية وكلفتهم بإدارة شؤون بلادهم الإفريقية.
من هنا توجّه آنذاك التفكير الفرنسي إلى الاستثمار في العنصر البشري بدل استنزاف قواها العسكرية والاقتصادية في حروب الاستعمار التقليدي،  لذا أعتقد أن التحاق هؤلاء الضباط الجزائريين بالثورة ربما يندرج ضمن هذه الرؤية الإستراتيجية، التي تهدف إلى الاستفادة من ولاء وخدمات تلك النخبة في المستقبل، والفرق هنا، هو أن المخطط الفرنسي في الجزائر كان على المدى البعيد (في غضون 20 إلى 30 سنة) لأنها واجهت تراكمات ثورة شعبية عارمة، في حين وضعت برنامجها في الدول الأخرى بشكل علني ومباشر، كان يفترض واقعيا أن تبدأ المفاوضات عام 1957 بعد سقوط الجمهورية الثالثة والإطاحة بثلاث حكومات متعاقبة بفعل تأثير ضربات الثورة الجزائرية، لكن فرنسا أخرت فتح القضية، حتى تتيح لنفسها وضع لبنات برنامجها المستقبلي، ولأنها تعلم أن العمود الفقري لأي ثورة بعد التحرر هو الجيش الوطني، فركزت على اختراقه والتغلغل في دواليب المؤسسة العسكرية، دون أن تغفل القطاع الإداري، الذي ورث 10 آلاف من الموظفين المفرنسين في غياب شبه تام للأعوان المعربين الذين يمكنهم بناء مؤسسات تنسجم مع قيم ومبادئ الثورة التحريرية في أبعادها الثقافية والاجتماعية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.