ملف تمرد الأفافاس على بن بلة عام 1963 - الجزء الثاني -

لخضر بورڤعة يواصل شهادته عن تأسيس الأفافاس عام 63 / الجزء الثاني والأخير

بن بلة قال لآيت أحمد: لم يخطر ببالي أن تحمل يوماً السلاح ضدي

حاوره: بلقاسم عجاج
المجاهد لخضر بورقعة
                                           المجاهد لخضر بورقعة

قام بومدين وبن بلة بافتعال معارك هامشية لجرِّ منظمتنا إلى حرب أهلية، فأصدرنا أوامرنا إلى مقاتلينا بعدم الانسياق وراء المؤامرة، وعدم الدخول في صدامات مع أفراد الجيش، ولم نقطع الاتصال مع النظام، وحدث أول اتصال مباشر مع مبعوثي بومدين ببلدة "جمعا سريج" شرق مدينة تيزي وزو، وقاد سعيد عبيد وفد النظام، وجاء على رأس قوات كبيرة معززة بأسلحة ثقيلة، فاشترطنا أن تحل قضية الديمقراطية وتوضع قيادة الجيش بين أيادي المجاهدين وليس مدسوسي الجيش الفرنسي على أن يحتفظ بومدين بوزارة الدفاع.
بعد صمتٍ لبرهة، قال بن بلة "لم يخطر ببالي يوما أن يرفع حسين آيت أحمد سلاحه ضدي"، ولم يقل ضد النظام أو تصرفات قائد الجيش، فرد أي أحمد بسرعة "أما أنا فلم يخطر ببالي أبداً أن يأتي يوم ويُزج فيه أحمد بمحمد في سجن الجزائر المستقلة". وكان يقصد بوضياف، فلم يجب بن بلة وخيَّم الصمت من جديد.

كيف تفاعل النظام مع الحادثة؟
استغل بومدين وبن بلة الحادثة شرَّ استغلال وهوّلاها ووصفاها بـ "الكارثة الوطنية"، كما صرح بن بلة قائلاً: "الوضع في البلاد على وشك الانهيار والانقسام حاصل لا محالة والثورة في خطر"، ودعا أعضاء قيادة جيشه إلى أن يشاركوا في الحملة العسكرية ضد المنطقة وحوّل مكتبه إلى غرفة عمليات، وذهب إلى القول "يجب مشاركة جميع القوات للقضاء على الأفافاس"، ودعا شعباني إلى التوجه إلى منطقة القبائل والشروع في التصفية، لكن شعباني رفض توريط جيشه في دوامة الموت دون علمه بكواليس السلطة.

كيف تعاطى بن بلة مع موقف شعباني؟
أغاض تمرد شعباني الرئيس بن بلة، أما بومدين فالتزم الصمت كعادته وأسرَّها في نفسه، وأمهله مدة للتفكير وبالغ في إكرامه لاستمالته وكان آخرها أن دعاه إلى مأدبة عشاء طالت إلى ساعة متأخرة من الليل.

هل بسبب صعوبة التفاوض لإقناع شعباني؟
لا، لم تكن تلك هي نية بومدين بل تعمد ذلك لوضع سيناريو دقيق له مع بعض رجال مخابراته للإيقاع بين شعباني والأفافاس، فبمجرد أن ودّعه، استعد رجالاته لنصب كمين لشعباني وهو في طريقه إلى مقر قيادته، على مستوى مفترق الطرق بالأخضرية، وبينما كان شعباني يقود سيارته فوجئ بإشارة حاجزة تسد طريقه، فاختل توازن السيارة إلى أن توقفت على حافة الطريق.. أطلق جنودُ الكمين النار باتجاهه لإرهابه.. وأشعلوا في وجهه الأضواء الكاشفة كي لا يراهم وأمطروه شتما وأمروه بتقديم أوراق ثبوت شخصيته ورخصة المرور، وأعلموه أنهم عناصر من قوات جبهة القوى الاشتراكية وهم يراقبون المنطقة، وبعد أن فتشوه وفتشوا السيارة أخلوا سبيله.

كيف كانت ردة فعل شعباني؟
شعباني القائد المحنك لم تُثره استفزازاتهم وتمالك نفسه، وأدرك بحسه الثوري أن العملية من تدبير بومدين، الذي استدرجه إلى مأدبة امتدت حتى الفجر وأنه الوحيد الذي كان على علم بطريقه الذي سيسلكه إلى بسكرة.. فتجاهل شعباني الحادث ولم يُعط فرصة أخرى لبومدين لإدانة الأفافاس، وأدرك بومدين بدهائه فشل خطته التي لم تنطل على شعباني.
فعمد بومدين إلى الاتهام المباشر زاعما أن خيضر وشعباني يرفضان مقاومة تمرّد الأفافاس، واستغل المصاهرة بين آيت أحمد وخيضر ليؤلب بن بلة ضدهما ويعلن الهجوم على الجميع.
وغصت السجون بالمواطنين الذين اعتقلوا، وقتلت قوات بومدين في هجومها على المنطقة 250 شخص، في حدود علمي، ولما زحفت قوات مغربية نحو حدودنا الغربية، يوم 9 أكتوبر 1963، قررنا وقف جميع نشاطاتنا السياسية والعسكرية، ووجهنا جميع قواتنا إلى جبهة القتال.

كيف توصلتم إلى اتفاق من أجل القتال سويّا لوقف الاجتياح المغربي؟
في صبيحة 19 أكتوبر 1963، اتصلنا بالسلطات في العاصمة بواسطة العقيد حسان وجاءنا فريق من الإخوة، بوسماحة وصايشي محمد، وتمَّ اللقاء في مزرعة بالشبلي واتصلنا عقب الاجتماع بآيت أحمد، وفوجئت بقوله لنا إنه اتصل بالمسؤولين في العاصمة مباشرة عن طريق المحامي بن حسين، واتصلنا بفدرالية فرنسا التي كان على رأسها قدور عدلاني وعمر بوداود، واقترح آيت أحمد لقاء الرئيس بن بلة، دون أي وسيط لإنهاء الخلاف، وكان اللقاء بسرعة حيث انتقلنا إلى الأبيار، ورافقنا المدير العام للأمن الذي جاء يقود سيارته بمفرده، وحصل اللقاء مع بن بلة بفيلا "الجميلة".

ما مضمون الحديث الذي دار بين الزعيمين؟
بعد صمتٍ لبرهة، قال بن بلة "لم يخطر ببالي يوما أن يرفع حسين آيت أحمد سلاحه ضدي"، ولم يقل ضد النظام أو تصرفات قائد الجيش، فرد آيت أحمد بسرعة "أما أنا فلم يخطر ببالي أبداً أن يأتي يوم ويُزج فيه أحمد بمحمد في سجن الجزائر المستقلة". وكان يقصد بوضياف، فلم يجب بن بلة وخيَّم الصمت من جديد.
وبادر بن بلة بالسؤال عن أهل آيت أحمد، وقال: "كيف حال جميلة ودروس يوغرطة؟"، وواصل السؤال عن العائلة فردا فردا، فلم يجب آيت أحمد، بل سأل عن أسباب انفجار الخلاف مع ملك المغرب، فرد بن بلة "كان الأولى بك أن تسألني أين وصل الجنود المغاربة، وأعلمك أنهم احتلوا حاسي البيضاء وهم في طريقهم لكلوم بشار.. ولم يقدم لنا يد المساعدة إلا جمال عبد الناصر وفيدال كاسترو، والأولى بك أن ترد على تساؤلات الأصدقاء لموقفك مني ومن العدوان".
فرد آيت أحمد "إذا كان الوضع كذلك فقد جئناك للدفاع عن ترابنا الوطني"، مضيفا: "على أن تتعهد بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين مع إعادة تشكيل القيادة العامة للجيش بمشاركة الولايات الست ويُعيَّن القائد من تتوسم فيه الكفاءة والإخلاص ومن ضباط جيش التحرير الأوفياء، مع إبعاد بومدين وضباطه المعروفين.. وتوزع الأراضي على المجاهدين وتعلن ذلك للجماهير"، فقاطعه بن بلة: "بوتفليقة الموجود حاليا بكوناكري سأعزله فور عودته كما تم عزل مدغري من قبله، وإذا احتجَّ بومدين وحاشيته فسيلقى نفس المصير، إما إذا رغب في البقاء وزيرا للدفاع دون التدخل في صلاحياتي فله ذلك".
حصل كل ذلك الحديث في غرفته الشخصية فغادرها إلى قاعة الاجتماعات حيث شاهدنا بعض الوزراء، وتقدم محمد حربي من الرئيس وتحدث إليه همسا.. أما الوزراء الحاضرون فهم علي محساس وعمر أوزقان وزهوان حسين ومعاشو عبد القادر مدير الديوان لدى الرئاسة.
وأعلن الرئيس قرار الاتفاق حرفياً، والتقط الصحفيون كل ما ورد في الخطاب التاريخي رغم قصره، وأعطيت الأوامر لبثه على أمواج الإذاعة وعبر الصحف، في اليوم الموالي، وتفرقنا في حدود منتصف الليل.

وهل احترم بن بلة هذا الاتفاق؟
عاد آيت أحمد إلى منزله بالأبيار، وعدت إلى ساحة القتال بكل من الشلف والمدية وتابلاط لأعطي الأوامر بالتحرك إلى جبهة القتال مع المغرب، ورافقني إلى البليدة مصطفى فتال الذي أعطى الأوامر لرجال الأمن لتسهيل عملية تجميع الجنود وجلب الحافلات التي ستقل قواتنا إلى الجبهة، فيما توجه محمد أولحاج بقواته من تيزي وزو، وهنا انتهى دور الأفافاس عملياً.
انشغلنا بذلك عن تنفيذ بث الخطاب، لكن للأسف علمنا أنه ألقي، بعد فوات الأوان، وكان مفاجأة لآيت أحمد، رغم تعهدات بن بلة وعلم أن الرئيس يخضع لضغوط، وأذاع تصريحا آخر مختلفا ومبهَما، واستغل بومدين سهولة انقياد بن بلة وناور رغم تواجده في قلب الأحداث بكلوم بشار، وزيّف موضوع الخلاف الداخلي وادعى أن ما سماه "محاولة انفصالنا" سهّلت الاجتياح المغربي.
وتعرّض ضباطنا للشتم على يد قوات بومدين وتمّ التشكيك في نواياهم وعزلوا.
وبعد توقف القتال مع المغرب عاد الصراع داخل السلطة والدسائس وكتب بوضياف من سجنه كتاب "دكتاتورية بن بلة"، وتعرض خيضر للتضييق واحتدم الصراع مع كريم بلقاسم.
وفي وقت ظل آيت أحمد يترقب أن يوفي الرئيس بوعوده، أعطى الرئيس أوامر بالقبض على آيت أحمد حيا أو ميتا، وقبض عليه واقتيد إلى السجن وبدأت محاكمته في سرِّية تامة وكان قرار بومدين أن يُصفى جسديا، ثم تغيّر الحكم إلى المؤبد بدل الإعدام، والتقيت الرئيس 6 مرات بغرض إنقاذ آيت أحمد.
وقلت للرئيس إن تصرفه سيعيدنا إلى الاحتماء بالجبال والتمرد عليه.. وأضفت "إذا لم تسارع إلى تطهير الجيش من الخونة، فإن الدائرة ستضيق عليك لا محالة..".
كان هذا في بيته الذي تعوّدت دخوله دون استئذانه.. ولم أره ثانية إلا يوم 15 ماي 1965، ضمن مندوبي مؤتمر المجاهدين، صافحتُ بن بلة في آخر لقاء معه، وبعد شهر وثلاثة أيام،  نفذ العقيد هواري بومدين وزير الدفاع خطة انقلابه العسكري.. وتبخر الاتفاق القاضي بتأسيس الأفافاس والذي تمّ التوصل إليه بين السلطة وعناصر قيادية من الأفافاس يوم 16 جوان 1965، أي قبل الانقلاب بـ3 أيام قبل أن ينسف بومدين كل شيء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المـلـــــف : مصالي الحاج ( المولد ، النشأة و الكفاح )

ملف الخونة : الباشاغا بوعلام.. من بطل فرنسي خلال الثورة إلى منبوذ بعد الاستقلال

تكريم الأستاذ دفوس عبد العزيز: لمسة وفاء لأهل العطاء.